قصه الحضاره (صفحة 12523)

يقول فيلمان "أن هذا الخطاب الذي أثار الإعجاب الشديد في ذلك الحين يبدو أسمى من كل ما خطر على الأفكار قبله في هذا الموضوع، ونحن نستشهد به حتى في يومنا هذا بوصفه قاعدة عامة جامعة". وربما وجبت بعض الاستثناءات من هذا الحكم. فوصف بوفون هذا يصدق على النثر خيراً مما يصدق على الشعر، وهو ينصف الأسلوب"الكلاسيكي" اكثر مما ينصف الأسلوب "الرومانسي"، وهو يتبع تقليد بوالو، ويرفع بحق من شأن العقل؛ ولكنه لا يترك متسعاً يذكر لفحول النثر الفرنسي من أمثال روسو، وشاتوبريان، وهوجو، ولا لفوضى رابليه ومونتيني اللذيذة، ولا لبساطة العهد الجديد المؤثرة البريئة من التكلف. ومن العسير عليه أن يدلنا على السر في أن "اعترافات" روسو، الشديدة الفقر في الفكر، الوافرة الغني في الوجدان، ما زالت من أروع كتب القرن الثامن عشر. فالحقيقة قد تكون واقع وجدان كما تكون بنيان فكر أو كمال صورة.

ولقد كان أسلوب بوفون هو الرجل، رداءاً وقوراً لنفس أرستقراطية. فهو لم ينس أنه إقطاعي كما كان عالماً وكاتباً إلا في دراساته. ولم تغير خطوه أسباب التشريف المتكاثرة التي توجت شيخوخته. فقد خلع عليه لويس الخامس عشر لقب الكونت دبوفون في 1771 ودعاه إلى فونتنبلو. ومنحته أكاديميات أوربا وأمريكا العلمية عضويتها الشرفية. وقد تفرس في هدوء واطمئنان في التمثال الذي أقامه له ابنه في الجاردان دورا وغدا يرجه في مونبار أبان حياته قبلة يحج إليها الزائرون كما يحجون إلى بيت فولتير في فرنيه، وفد عليه روسو، وركع على عتبته، وقبل الأرض (111). وزاره هنري أمير بروسيا، ومع أن كاترين الكبرى لم تسطع زيارته، إلا أنها أرسلت له كلمة تقول إنها تضعه في أعلى المراتب بعد نيوتن.

ولقد كان مهيب المظهر مليح الصورة في شيخوخته -"له جسم رياضي" كما قال فولتير "روح حكيم" (112) وكان في رأي هيوم لا يبدو رجل أدب بل قائداً من قواد فرنسا الحربيين (113). أما أهل مونبار فكانوا يعبدونه. وكان بوفون على وعي تام بهذا كله، يفخر بلياقته البدنية وبمظهره، ويرجل له شعره ويبدر مرتين في اليوم (114). وقد نعم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015