قصه الحضاره (صفحة 12522)

والتأمل، وتجاربه هي بذار منتجاته. ولكن لو أن الإنسان حاكي الطبيعة في طريقته وفي جهوده، ولو أنه ارتقى بالتأمل إلى أسمى الحقائق، ولو أنه وحد بينها من جديد وربط بينها في سلسلة، وألف منها كلا واحداً، ونسقاً محسوباً، لو أنه فعل هذا كله لأقام على أسس راسخة صروحاً خالدة على الزمن.

وبسبب افتقار الكاتب إلى مخطط، معدم تفكيره في هدفه تفكيراً كافياً، يجد نفسه حائراً -حتى إذا كان من رجال الفكر- لا يعرف من أين يبدأ الكتابة؛ فهو يرى في وقت واحد عدداً كبيراً من الأفكار، ولأنه لم يوازن بينها، ولم يرتبها منظماً، فما من شئ يدعوه لتفضيل بعضها على بعض، ومن ثم يظل في حيرته. أما إذا وضع له مخططاً، وإذا جمع ورتب جميع الأفكار الأساسية في موضوعه، فسيرى للتو، وفي يسر، في أي نقطة يجدر به أن يتناول قلمه، وسيحسن بأفكاره تنضج في ذهنه، وسيبادر إلى إخراجها للنور، وسيستشعر لذة في الكتابة، وستتلو أفكاره بعضها بعضاً في غير عناء، وسيكون أسلوبه طبيعياً وسهلا، وسينبعث من هذه اللذة ضرب من الدفء ينبسط على عمله، ويضفي الحرارة على عبارته؛ وسيزداد النبض في كتابته ويعلو النبر، وتتخذ الأشياء لها لوناً، ويزداد الشعور وينتشر بعد التحامه بالنور، وينتقل من ذلك الذي نقوله إلى ذلك الذي نوشك أن نقوله؛ وسيصبح ممتعاً مشرقاً ...

ولن تنحدر إلى الأجيال القادمة غير الأعمال التي أجيدت كتابتها. ولن يكون ما حوت من غزارة في المعرفة، أو غرابة في الوقائع، أو حتى طرافة في الكشوف، ضماناً أكيداً للخلود. فلو أن الأعمال التي تحوي هذا كله اهتمت بموضوعات تافهة، أو كتبت دون تمييز أو سمو ... لكان مآلها إلى الزوال، ذلك أن المعرفة، والوقائع والكشوف، يسهل نقلها وسلبها، بل إنها تكون أوفر حظاً لو وضعت في أيد أقدر وأكفأ. فتلك الأشياء خارجة عن الإنسان، أما الأسلوب فهو الإنسان ذاته Le style est i'homme meme، إن الأسلوب لا يمكن سرقته، ولا حمله، ولا تغييره وتبديله، وإذا كان أسلوباً رفيعاً، نبيلا، سامياً، كان صاحبه موضع الإعجاب في جميع العصور على السواء؛ ذلك أن الحقيقة وحدها هي الباقية الخالدة" (109).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015