فلنبسطه هنا إذن، ونتأمله على مهل. والترجمة تذهب ببعض روائه، ولكنه مع ذلك، ورغم ما تضطرنا إليه العجلة القبيحة من بتر لبعضه، فإنه خليق بأن الصحائف أياً كانت". قال بعد أن قدم لخطابه بتحية لجمهور ضم الكثيرين من أصحاب الأساليب:
"إن الناس لم يتقنوا الكتابة والحديث إلا في العصور المستنيرة. فالبلاغة الصادقة ... تختلف تماماً عن سهولة الحديث الطبيعية ... التي وهبت لكل صاحب عاطفة قوية ... وخيال سريع ... أما القلة من الناس الذين وهبوا الفكر المتزن، والذوق الرفيع، والحس المرهف -والذين لا يعبأون كثيراً، شأنكم أيها السادة، بنبر الكلمات، وإيماءاتها، ورنينها الأجوف- هؤلاء يتطلبون المضمون، والفكر، والتمييز، يتطلبون فن تقديم كل أولئك وتحديدها، وترتيبها، فلا يكفي قرع الآذان واسترعاء العيون، فلا بد للمرء أن يؤثر في النفس ويلمس القلب وهو يتحدث إلى الذهن ... وكلما ازدادت المادة والقوة اللتان نضفيهما على فكرنا بالتأمل، سهل بلوغهما في التعبير.
كل هذا ليس الأسلوب بعد، بل أساسه، أنه يدعم الأسلوب ويوجهه، وينظم حركته، ويخضعه للقوانين. فبدونه يضل خير الكتاب، ويتوه قلمه دون مرشد، ويقذف كيفما اتفق بالخطوط المبهمة والأشكال المتنافرة. ومهما كان بريق الألوان التي يستعملها، وأياً كانت المحسنات التي ينثرها في التفاضيل، فسيختنق بكثرة أفكاره، ولن يبعث فينا وجداناً، ولن يكون لكتابته هيكل أو بنيان ... ومن ثم يسئ الكتابة من يكتبون كما يتحدثون، مهما أجادوا الحديث، والذين يستسلمون لأول الهام حار من خيالهم يتخذون نبرة لا يستطيعون الإبقاء عليها ...
ما السر في كمال أعمال الطبيعة؟ هو أن أي عمل من هذه الأعمال كل متكامل: لأن الطبيعة تعمل وفق خطة سرمدية لا تنساها أبداً، فهي تعد في صمت بذور إنتاجها، وترسم بخطة فرشاة واحدة الشكل البدائي لكل شئ حي، ثم تطوره وتصقله بحركة متصلة وفي زمن مقرر ... وذهن الإنسان لا يستطيع أن يخلق شيئاً، أو ينتج شيئاً، إلا بعد أن تثريه التجربة