وإذا هذا المسجد الصغير المبني من الحجارة والطين وسعف النخل يغلب الإيوان العظيم بشرفاته ودعائمه، وقصر الشالسيه بزخارفه ونقوشه وقبابه وأبراجه، ويصير ندوة الدنيا ومدرسة العالم.
ففي ذات مساء دُعي الناس إلى الاجتماع في هذا المسجد (وكان المسجد دار السياسة، كما كان دار العلم والعبادة)، فتوافدوا عليه من كل صوب، فلما اجتمعوا قام أمير المؤمنين فبشر الناس بفتح جديد، وقدّم إليهم شاباً لم يروه من قبل يُدعى زياداً، ليصف لهم هذا الفتح الذي جاء بخبره. واستشرف الناس ونظروا إليه، فلما أبصره أبو سفيان - وكان في أصل المنبر إلى جانب علي - خفق قلبه واضطرب ... إنه ابنه زياد، ابن الحبّ! وحبس أنفاسه ليصغي إليه وقد خاف عليه الفضيحة، فإذا الفتى الجميل الوسيم يخطب خطبة يملك بها الألباب ويستهوي القلوب.
"فلا يتمالك نفسَه أبو سفيان أن يقول لعلي: أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ فيقول: نعم. قال: أما إنه ابن عمك. قال: وكيف ذلك؟ قال: أنا قذفته في رحم أمه سمية. قال: فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال: أخشى هذا القاعد على المنبر (يريد عمر بن الخطاب) " (?).
* * *
وذهب أبو سفيان يلقى معاوية، وقد استيقظت في نفسه