ويتعرف أخبار ابنه ويقوّم سبيله، ولكنه انصرف عن الحب ولم يعد له في حياته مكان. إن على عاتقه عبءاً ضخماً؛ إنه يقود إحدى الفئتين في أعظم معركة عرفها تاريخ الإنسان من يوم هبط آدم من الجنة إلى يوم تقوم الساعة ... المعركة بين الحق والباطل، بين الحرية والاستعباد، بين المستقبل المنتظَر والماضي الذميم، بين الحضارة والبداوة ... وكان هو قائد الفئة المدافعة عن الباطل، فجال الباطل جولة ثم اضمحل، فإذا النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يضيء الجزيرة، ثم يخرج إلى الشام والعراق فترفرف عليها رايات محمد ظافرة منصورة، وإذا هذا السيد القرشي جندي صغير في جيش محمد!
ذلك أن مقاييس العظمة قد تبدلت، وأن الدين الجديد لا يعتمد على النسب ولكن على المزايا، ولا يعرف قانون الطبقات بل قانون الكفايات. فهبط أبو سفيان حتى صار جندياً، وارتفع هذا الرجل الذي لا يملك نسباً في هاشم ولا أمية وليس له جدود من مخزوم، ارتفع عمر حتى صار أمير المؤمنين ووارث كسرى وقيصر.
تبدلت الدنيا كلها، فإذا الدعوة التي كانت تكافح لتغلب مكة وأهلها قد ملكت الجزيرة كلها وغدت في حرب مع الأعداء الذين سرقوا حرية الشعوب وعبثوا بتراث الإنسانية.
وإذا القرية التي كانت منقطعة وراء الرمال قد صارت منذ هبطها محمد قصبة الأرض، ووارثة المدائن سلطانها، وشريكة القسطنطينية في بلادها.