نحو السفوح العاشبة، يغنون أغانيهم الساحرة أو ينفخون في الناي تلك النغمة الفاتنة التي يتوارثها الرعاة جيلاً عن جيل فلا يفقدها التكرار حلاوتها ولا جمالها. فإذا انبسطت الشمس وتصرمت الظلال أويا إلى الدار فعاشا روحاً واحدة في جسمين ... ثم إذا وقفت الشمس للوداع خرجا مرة أخرى إلى الصخرة يودعان الشمس، فينظر كل منهما بأربع عيون، ويلقي هامساً في أذنيها أغاريد الحب، فتسمعها بروحها وتجيب عنها بعينيها، حتى تغيب الشمس ويلقي الليل ذوائبه السود على الدنيا، فيعودان.
الحب ربيع الحياة المزهر، ولكن الربيع ينتهي ويأتي الصيف بحرارته، والخريف بشحوبه، والشتاء بزمهريره، ولا بد أن ينتهي الربيع. أيام الحب كأس مترعة بالشراب، ولكن الكأس تفرغ ويحس الإنسان بالظمأ، ولا بد أن تفرغ الكأس.
عاشا في ليالي الحب ما عاش الصيف، فلما بدت طلائع الخريف وغمرت الطائف وصخورها علا صوت الواجب من بطن مكة يدعو هذا السيد، ولم يبق بد من الفراق. إن الحرب تدور هناك وراء هذه السفوح البعيدة، يخوض قومه لظاها، أفيبقى في نجوة من لظى الحرب وهو السيد الشريف والفارس المعلم؟ أيتقلب قومه في غمار المعركة المشتعلة ويتقلب هو في أحضان امرأة يقطف من عينيها السحر ويذوق من فمها الخمر؟ لو أن رجلاً من قريش لم يكن في العير ولا في النفير رضي بهذا الفرار لكان له سبّة الدهر، فكيف بسيد العير وصاحب النفير؟ لم يبق بدٌّ من الفراق، فليمزق قلبه شطرين، فيضع شطراً في هذه الأعالي المخضرّة الساحرة يحلم بالحب ويتجرع الذكريات، ويذهب بالشطر الثاني