ولما خرجت تشيعه كان الليل قد تصرّم وبدت طلائع الفجر من وراء الصخور، تغسل الأرض بالنور بعد أن خلعت عنها رداء الظلام. فوقفت الفتاة تنظر إليه وقد أحست بأن هذا الحب قد نقّاها من رجسها، وأن الفجر قد سطع على قلبها فبدد ظلماته. وتنبهت في نفسها ذكريات ماض بعيد حسبته قد مات منذ زمن طويل فإذا هو حي قد أكسبه الحب يقظة وقوة، وطفقت صور هذا الماضي تتدفق على نفس الفتاة فتبصر صباها الطاهر كثلج الصباح وحياتها في تلك الخمائل البعيدة من وطنها النائي كفراشة تطير خلال الورد ... ولكنها لا تتبين هذه الصور ولا ترى منها إلا خيالات ضعيفة. لقد مشت عليها السنون فمحتها بأقدامها ... ثم تفكر في حياتها الحاضرة التي تخوض حمأتها الدنسة، وتعرض لها صور هذه الأجساد البشعة القذرة التي مست جسدها وعانقته وقبست منه لذتها، فيعروها ارتجاف شديد، وتواري وجهها بكفيها حياءً وخجلاً ... ثم تذكر هذا الحب الذي مس قلبها بكهربائه فأضاءه وزكّاه، فتعتزم التوبة لتصل ماضيها البعيد بمستقبلها الذي طهره هذا الحب الوليد.
* * *
وبزغت الشمس ولم يغمض للفتاة جفن، فدخلت منزلها تستريح، وإذا هي برجل يدخل عليها يبتغي أن تمنحه اللذة. فتتأمل في وجهه فإذا هو بكر الثقفي، أشد شباب الطائف وأقواهم. فيرعبها مشهده، ويروعها كأنما هي عذراء لم تفارق خدر أمها، فتبتعد عنه مضطربة، فيعجبه ذلك منها ويظن أنها تداعبه، فيبالغ في الاقتراب منها ويأخذ بيدها، فتحس لملمسه كأن حية سوداء قد