وأنزله الزلال على الجسر (حيث قام تلك الليلة) فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بأن هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها. ورأى الناس من حوله، فهمّ بأن يسألهم درهماً يشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم، ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها؛ ثمان وعشرون سنة ليست يوماً ولا يومين، دهر طويل وُلد فيه ناس ومات ناس، عمر كامل ... وتهافت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطماً مكدوداً يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها ... حتى بلغ الدار ونظر، فإذا الخربة التي خلف فيها الحبيبة قد صارت داراً فخمة على بابها الجند و «الشاكرية» (?)، فوقف ينظر إليها من بعيد. هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبراً، ولكنها أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريباً في بيته منكراً في بلده؛ إنه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن أثر واحد من دنياه التي كان يألفها؛ فإذا كل شيء قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، ولا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده ... ثم استغفر الله وأناب إليه؛ إنه