هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شيء إنه هو وحده الذي يصرف الأكوان.

وولى ليعود فيضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد أن حُرم آخر أمانيّه، وهو أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة. ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولم يفكر في شيء؛ فقد تواردت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلباً، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كلها مصيبة ... ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها أو يؤلمه فقدها. وتلفّتَ ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة وأودعه أعز شيء عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة، فإذا هو يرى دكان بقال (كان يعرفه) لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطلل البالي في المدينة العامر، فأسرع إليها.

"وكان فيها شاب حَدَث علم منه أن أباه البقال مات من عشرين سنة، وأن الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله، وأن لهذا الرجل قصة عجباً؛ فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئاً فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو الفتى. ثم وُلد للرشيد مولود فطُلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهن، فدُلَّ على الجارية فقبل ثديها وصارت ظئره. وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون" (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015