وتراقصت الأمواه من دجلة وتناجت بالحب، وسكرت السفن وهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر. وكانت بغداد هي الدنيا، وكانت دارة الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء ... وكذلك تكون الدنيا!

وكان دجلة يسير مزهواً طرباً؛ فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهّده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرَ أياماً أحلى، ولا مجداً أبقى، ولا ناساً أنقى وأتقى، من تلك الأيام وناسها.

وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى، كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة الحب والحرب، والعز والهوى؛ هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق. وكان يمضي إلى غايته مسرعاً كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضاً شعاعة من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالاً، وعلى العقول علماً وكمالاً، وعلى المسلمين عظماً وجلالاً، وعلى الناس كلهم حضارة وتمدناً وسلاماً وأمناً، وضوأت لهم طريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015