ثوبه، وانطلق ماشياً على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس (وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه مَن هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً). وجعل يطوي الأرض والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مساعداً معيناً فعاد إلى تجارته. وجعل يفكر - لمّا استقر به المنزل في داره - في بغداد، ويكتب الكتب يسأل ويستنجد ويلح ويتوسل. حتى كتب ستة وستين كتاباً (?) ولم يرجع إليه جواب.
وأثرى وامتلأت يده بالذهب، ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشيةَ منزلُه وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبل ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاكهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفاً ... ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب.
وتصرّمت السنون، وتتابعت خالية فارغة حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكُهُ ثمان وعشرون سنة،