وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة، فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب واشترى قماشاً وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن ... ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص فنهبوها وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً.

ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل ومشارع المياه ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا الرغبة في الموت ... وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره، ولم يرد أن يضم عظامَه إلا الثرى الذي ضم أعظُم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك.

وجعل يفكر تفكيراً مبهماً ملتاثاً، يقطعه الجوع الذي يفري أمعاءه والتعب الذي يهد عظامه، فيرى أنه كان في حلم وصحا منه ... الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، والمال، والصحة والسعادة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015