وخرج، وصار يعدو كالمجنون. أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً فيها، ليست منه ولا هو منها. وكذلك يصنع الحب!
وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً ساكناً والناس قد أمّوا بيوتهم وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلّفها تعاني سكرات الموت وعجز عن إسعادها، ولا دار له إلا هذه الخرب التي فرّ منها.
لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له في دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور. وتصور الوحشة المخيفة والوحدة المرعبة التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، ونظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء وأَنَسَة الاجتماع.
وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقاً مخلصاً وقال: "يا رب، إني استودعتك هذه المرأة وما في بطنها ... "، وهمّ بإلقاء نفسه في الماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلامَ الحب ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق «درابزين» (?) الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماء، ويفكر في