فترى كل شيء قد عاد كما كان، ولكن الحقيقة سرعان ما تفجعها بهذا الوهم وتبدده أمام عينيها.
وكان أشد ما روعها وحز في فؤادها انصراف الناس عنها وكف أيديهم عن مساعدتها؛ فقد شغلت المصيبة الداهمة كل واحد بنفسه، فكأنه يوم المحشر كل يقول فيه: «أنا». وكرت راجعة وهي تعرض في ذهنها فصول هذه الرواية التي مثلت الليلة، فابتدأت بالظفر والمجد والحب والوصال، ثم انتهت بالخيبة المرة والهزيمة الماحقة والفراق الطويل. ولم تفهم كيف يمكن أن يهوي في لحظة الصرح الذي أُقيم في مئة سنة، وكيف يهدم رجل واحد ما تعاون على إنشائه أهل أوربة جميعاً! أيكون أمير مسلم واحد معادلاً في الميزان لملوك النصرانية كلهم وأمرائهم؟ إذن كيف لو تحالف المسلمون كلهم؟ كيف لو كانت هذه الحروب في أيام الخلافة، إذ كانت مملكتهم مملكة واحدة تمتد من الصين إلى قلب فرنسا؟
وجعلت تسأل كل من تلقاه عن زوجها، فلا يقف لها أحد ولا يرد عليها، وإذا لقيت كريماً منهم رقيق القلب فسألته فعطف عليها بجواب لم يكن جوابه غير: "لا أدري"!
وظهر القمر نحيلاً هزيلاً من بين فرج الغمام، فألقى على الساحة ضياء شاحباً حزيناً جعل الدنيا كأنها وجه مريض محتضر، فرأت قطع اللحم البشري مخلوطة بالوحل، تبرز من خلالها الدروع المذهبة وتبدو من بينها قطع الرماح المكسرة والسيوف، فأشجاها التفكير في هذه الجيف المنتنة التي كانت في الصباح