في يوم غائم، وحاول أن يقول فضاع صوته في عويل الناس وصخب البربر، وأراد أن يشير بيده التي طالما هز بها أعواد منبر وطالما أشار بها إلى ظفر فحركت إليه الكتائب السود، وطالما أغنى بها فقيراً وفك أسيراً وأجاز شاعراً وفعل بها المكرمات، أراد أن يشير بها فأثقلها حديد القيود، فأحنى رأسه وأطرق، و ...
سارت سفائِنهم والنَّوْحُ يتبعُها ... كأنها إبلٌ يحدو بها الحادي
* * *
وعاد الناس إلى بيوتهم وما يصدقون أنهم فقدوا المعتمد بن عباد!
أفي عشية وضحاها يُطمس كتاب كله مجد وكرم أُلِّف في عشرين سنة؟ ألم يعد يطلع عليهم موكب الشاعر الذي يغني للحياة أجمل أغانيها، ولا الفارس الذي ينظم للبطولة أروع أناشيدها. إنهم لا يستطيعون أن يصدقوا؛ فهُرعوا إلى تلك القصور التي ارتضاها لسكناه المجد، واختارها الفن وأقام فيها النبل، فلما بلغوا أسوارها لاحت لهم من بعيد كأنها لا تزال عامرة بالملك الهمام. فلما اقتربوا منها لم يصافح أسماعهم صوت شاعر بنشيد، ولا قائد بنداء، ولم تأخذ أبصارُهم علماً يخفق ولا راية ترفرف، ثم بدت لهم الرياض وقد جف نبتها، وصوّح زهرها، والدور قد هُدّمت جدرانها وهُدّت أركانها. وإذا القصر الذي كان يعبق بريا القرنفل وشذا الفل تفوح منه روائح الموت، وإذا تلك الغرف والمقاصير التي كانت تسطع فيها الأضواء، فترقص أشعتها على العمد المزخرف والأساطين المنقوشة، قد محي نقشها وطمس