وملأت نفسَ هذا الشيخ صورةُ أمه فنسي اليوم العصيب، وغفل عن تصور النصر الذي أفلت منه كما يفلت الطائر الجميل من قفصه ثم يوغل في مسارب السماء، ونسي خيبته التي جعلت حياته سوداء فارغة كظلام الليل، ولم يعد يفكر إلا في هذه الصورة التي أعارته من بهائها وسموها جناحين طار بهما إلى أيامه الخوالي، فتغلغل في رحابها الواسعة.
لم يبق له من صورة هذا الماضي العظيم (من عالم أبي بكر والزبير) إلا خط واحد ضعيف كابٍ يوشك أن تعدو عليه الأيام فتمحوه اليوم أو غداً؛ لم يبقَ إلا ذات النطاقين، أمه، أسماء العظيمة، التي كانت تاريخاً حياً وكانت الفضيلة المجسدة، فانطلق إليها يودعها قبل أن يموت. وكان الموت الشريف أجمل أمنية لهذا الشيخ البطل الذي خسر الملك والجيش ولكنه لم يخسر العبقرية ولا الشرف، بيد أن هذا الشيخ يخشى أن يدع هذه العجوز تحمل معها آلام الثكل والوحدة حتى تبلغ بها قبرها القريب ... فكيف السبيل إلى إكراهها على التسليم به والرضا بموته؟
وقام الشيخ من مجلسه يسلك هذه الطرق الموحشة التي سلكتها أمه في الهزيع الأول من هذا الليل، فلم يقف في طريقه على الأطلال ولم يُثره مشهد الملك الضائع، لأن أفكاره كلها قد تعلقت بأمه، فهو يجب أن يصل إليها. فيمضي مسرعاً، حتى إذا دنا من هذا المنزل المظلم الموحش تباطأ في سيره، حتى إذا بلغ بابه تهيب الدخول عليها وأحس بالعجز عن مواجهتها بعزمه، وهو الذي لم يحس العجز عن مقابلة الخميس العرمرم ولم يشعر الضعف عند مجابهة الشدائد والخطوب. فوقف وأطال الوقوف،