قصص من التاريخ (صفحة 206)

تضم فيها ابنها إلى صدرها، ثم تنسى نفسها وهي بين ذراعيه حتى تسلم الروح. إنه حياتها، وهو كل شيء لها ... وراحت تبكي بعينيها المنطفئتين بكاء موجعاً.

* * *

وفي تلك الساعة كان في الحرم طائفة من الناس تحت علم منصوب في ظل الكعبة؛ أولئك هم بقية هذا الجيش اللجب الذي كان منتشراً بين أقصى خراسان والبحر الأحمر، وهذا هو العلم الذي خفق على هذه البلدان تسعة أعوام كاملات.

وليس أروع من الجيش القوي الظافر الذي يسد منافذ الفضاء ويحجب الشمس وتعنو له الشوامخ الراسيات وتميد بثقله الأرض إلا هذه الحفنة من الرجال الأشداء الصابرين، الذين تخيرتهم شجاعتهم وعبقريتهم فكانوا بقية السيف وطرائد الموت، ثم آثروا الموت أمجاداً على الاستسلام والهوان. وتلك هي حال هذه الطائفة من الناس.

وكان في الجمع شيخ مستند إلى جدار الكعبة، تومض شعوره البيض في شعاع القمر، يفكر (أو هو يبدو كالمفكر) على حين يتجرع مرارة خيبة قاتلة ويحس من حوله زمهريراً بارداً، فكان بحاجة إلى صدر دافئ يقبس من حرارته الحياة والأمل. ولقد كان شيخاً في الثمانين، ولكنه لا يزال حيال أمه ذلك الطفل الذي يتمرغ في أحضانها ثم يضطجع فيها، ويرفع وجهه الصغير إلى وجهها، ويقطف بعينيه ثمرات الحب الحلوة من عينيها الوادعتين، ويبعث أصابعه تعبث بوجهها وشعرها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015