وتقاذفته الأفكار حتّى أحس كأن رأسه خلية نحل ... كيف يمسك قلبه أن يتخاذل ويضعف أمام بكائها وتوسلها إليه أن يبقى، أن يبقى إلى جانبها في أيامها الأخيرة؟
كانت الأفكار تصطرع في رأسه وهو هادئ ساكن لا يبدي حراكاً، قد تعلق بصره بهذه العجوز القابعة في الزاوية، ينيرها شعاع ضئيل من أشعة القمر يسقط عليها من خروق السقف المتهدم، وكانت أذنه مرهفة مائلة إليها، فسمعها تردد اسمه في خفوت بلهجة يقطر منها الحب والشوق واليأس والحزن، فلم يتمالك هذا الشيخ نفسه أن صاح: أمي!
وألقى بنفسه بين ذراعيها، فمرغ لحيته بوجهها، وغابا معاً في حلم ممتع نشوان. ثم تنبهت العجوز، وذكرت نذرها الذي نذرته للوحدة الإسلامية وعزمها الذي اعتزمته، فخلصت عن عناقه برفق وقالت له: ما جاء بك؟
فحار في جوابها، ولم يدرِ كيف يعلن عزمه على الموت، ثم آثر أن يرى ما عندها وقال لها: «يا أماه، قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير من أصحابي ومَن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟» (?).
قالت: أهذا ما جئت لأجله؟ أجشمت نفسك عناء المسير فوق أنقاض المدينة المقدسة التي هدمتها وتركتها أطلالاً، لتقول