التي عاشت فيها والمعارك النبيلة التي شهدتها، وتذكر فيه تاريخاً طويلاً تلتقي حوادثه الكبيرة في هذا التاريخ الصغير الذي تحفظه لابنها، وتنقلها الذكرى إلى هذا التاريخ ... فإذا هي في دنيا قريش، وقريش في حيرة وقلق وقد خابت وفشلت في رد هذا السيل الآتي بأكفها الضعيفة، ورأت الإسلام ينتشر ويمتد ولا يثبت شيء أمامه، فائتمرت بالنبي تقتله، ولكنها لم تجده في بيته، ولا تعلم أين هو. لا يعلم أين هو إلا رجل في مكة وامرأة. أما الرجل فعليّ، وأما المرأة فأسماء ... يا لروعة هذه الذكريات!
لقد كانت في بيتها تعد اللحم لتحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (فإن رسول الله يعجبه اللحم)، وإذا بالملأ من قريش يدخلون عليها وهم يرعدون ويبرقون، يزهون بكبريائهم الفارغة وعنفوانهم المزيف وثيابهم الزاهية، فقال لها أبو جهل بلهجة حاول أن يجعلها فخمة نبيلة، ولكنها جاءت أقرب إلى التصنع والإضحاك: أين أبوك؟
- وما يدريني أين أبي؟ لا أعلم.
فلم يترفع هذا السيد الذي عجز عن ردّ محمد عن أن يرفع يده على امرأة! لقد لطمها لطمة أطارت قرطها ... ومدت العجوز يدها تتلمس أذنها على غير شعور منها، ومست بيدها بطنها، فقد كانت يومئذ حاملاً ... يا لبطولة هذا السيد القرشي الذي يضرب امرأة حاملاً!
ثم استدار المشهد، فإذا هي قد انطلقت من دنيا قريش الضيقة المحصورة إلى دنيا محمد الواسعة الفسيحة. لقد هاجرت تقطع الصحارى والقفار حتى أشرفت على نخيل المدينة، فوقفت