قصص من التاريخ (صفحة 177)

طوت القافلة الفلوات، تتجنب الطرق المسلوكة وتنأى عن القرى القليلة القائمة في الصحراء بين دمشق ويثرب، لئلا تجد فيها ما تخشاه في هذه الأيام المضطربة الحافلة بالثورات والحروب. وكان أصحابها دائبين ينزلون النهار إلا أقله، ويمشون أكثر الليل وجانباً من النهار، يتجنبون حر البادية ووهج الشمس، حتى رأوا «بصرى» تلوح لهم في اليوم السادس عشر، يبسم طيفها خلال أشعة الطَّفْل، فوثبت إليها قلوبهم، وطارت أمانيهم، وجدّت القافلة المسير؛ دأبَ المسافر إذا دنا من بلد أو شارف غاية. وكان المعلم الشاب أشدهم طرباً وفرحاً، فطفق يحدق في هذا الطيف ويتأمل هذه الرمال، يستمتع بأحلامه البهيجة الحبيبة، فيرى الرمال إذ تمتد في اتزان عجيب من قلب الجزيرة إلى أسوار بصرى، يحملها هذا التيار المنبثق من قلب بلاد العرب فيصبها في أرض الشام فتغمرها بروح الجزيرة وتعلمها معاني الرمل ... ومن معاني الرمل أن تكون الأمة مجتمعة كالرمل، كثيرة كالرمل، خالدة كالرمل، صابرة كالرمل.

ويغيم طيف المدينة ويظلم ثم يختفي في ثنايا الليل، ولكن المعلم الشاب لا يزال ممعناً في التحديق، قد نسي القافلة وغفل عن الزمان، فلم يبصر اختفاء المدينة، وإنما كان يبصر أحلام الجزيرة التي استهوته حتى استسلم إليها ووضع في يدها قياده، فساقته إلى عالم ناء لا يدرك العقل قرارته ولا يبلغ غوره، عالم يفيض بالفتون والجمال والسحر، فظل يستمتع بفتونه وجماله أمداً طويلاً ... ثم قادته الذكرى إلى ماضي الجزيرة، فإذا هو يراها ممحلة مجدبة، قد تعرت من الخضرة كما تعرت من الحضارة،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015