وقد راقها هذا الحداء فمدت أعناقها وأوسعت خطوها وهي طَرِبة سَكرى بخمرة الألحان، ولمس الفرَج يأتيه من حيث تأتي القافلة، وأرهف أذنيه يتسمع هذا الصوت الذي يدنو أبداً يحمل إليه الأمل والسعادة، فإذا بالصوت يتخافت ثم يضمحل وهو أشد ما يكون طرباً به وسروراً، ويسيطر على البادية هذا الصمت العميق، فيألم المعلم الشاب ويحس بالخيبة تحز في قلبه، ويضيق بهذا الصمت الذي كان ينعم به منذ لحظات.
وتنعقد السحب فتحجب عن عينيه هذه النجوم المتلألئة (أو يخيل إليه أنها حجبت عنه)، فيدور ببصره، فلا يرى إلا مخلوقاً واحداً هائلاً يحف به من كل مكان فيحس بالرعب، وتثقل عليه هذه الوحدة الموحشة تحت ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة الصمت، وظلمة الخيبة ... ويهم بالتصريخ، ولكنه يقر ويسكن حين يرى هذه النجوم قد ظهرت دانية قريبة، كأنما هي قد استقرت على الأرض على قيد ذراعين منه، تتراقص على ظهر اللجة السوداء تحاول أن تخترق حجب الظلام بأشعتها الكابية الكليلة. وما ينفكُّ يحدق فيها، تختلط أفكاره في رأسه ويحس بأنه قد هوى في وادٍ مظلم سحيق ... ثم لا يحس بعد ذلك شيئاً لأن النوم قد غلب عليه وهو في مكانه.
ويشعر المعلم الشاب بيد قوية تهزه هزاً فتقف كل شعرة في جسمه، ويفيق مذعوراً يظن أن الجن تداعبه وتوقظه، فيضغط جفنيه ضغطاً شديداً ويستر وجهه بكفيه، ولكن هذه اليد تقبض على كفيه فتنترهما نتراً، وتخالط أذنه أصوات عجيبة ولغط وضوضاء؛ فلا يشك في أنها أصوات الجن، ويفتح عينيه مضطراً