قصص من التاريخ (صفحة 173)

نفسه قوة وحياة، فرأى أمله الذي بخّرته شمس الضحى قد عاد رطباً ندياً، فجلس وحيداً بين هذه الملخوقات العظيمة: النجوم والسماء والليل والصحراء، يناجي أمانيه ويرسم طريقه إليها. وكان الليل ساكناً هذا السكون العميق الذي لا تعرفه المدن، ولا تدريه القرى، ولا يقدر عليه البحر، وإنما تعرفه الصحراء العظيمة بصمتها وضجيجها وقوتها ولينها، فراقه هذا السكون وملك عليه لبّه، فأصغى إليه إصغاء شديداً، فكان يسمع فيه نشيداً سرمدياً متصلاً، له من الروعة في القلب والأثر في النفس ما لا يكون مثله لهذه الموسيقى المتكلمة الهزيلة الصاخبة الضاوية، التي تخرج من أفواه ضيقة أو آلات حقيرة جامدة، وإن هي عظمت فإنما مخرجها أغصان الدوح الذي يرتل ترتيلة العاصفة، أو السحاب الذي يغني أغنية الرعد، أو البركان الذي يزأر زئير الموت ... أما الصمت فهو نشيد الصحراء الخالد وأغنية الوجود كله!

غير أن هذا الصمت ينقطع فجاءَة، ويحمل نسيم الليل الهادئ إلى أذن المعلم الشاب صدى أصوات بعيدة وعميقة، كأنها خارجة من أجواف الغيران أو من بطون القبور. فلم يدرِ أهي من صنع الواقع أم هي من تزوير الخيال. ولم يحفلها، لولا أن النسيم حملها إليه كرّة أخرى وهي أقوى وأشد وضوحاً. ثم تبين فيها حداء حلواً، فتخيل القافلة وهي تضرب في الرمل الناعم البارد، والإبل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015