ومرت الأيام، ولبثت ليالي العقيق على أنسها وطربها، ولكن سهيلة التي كانت تملأ الوادي أنساً وطرباً وتشيع فيه السرور والبهجة قد اختفت في سمائها كما تختفي النجوم في الليلة الماطرة. أما رفيقاتها فلقد حرصن على أن يخففن من لوعتها وينسينها آلامها، وسقن عليها أمينة، رفيقة صباها وصاحبة سرها وأحب الفتيات إلى قلبها، فكانت تعرض عنها ولا تنظر إليها، وكنّ يسألن أمينة عنها كل ليلة فتقص عليهن ما رأت منها:
لقد جزت بها اليوم، فإذا هي (يا أسفي عليها!) قد تبدلت حتى كأنها لم تكن يوماً من الأيام سهيلة التي نعرفها. وجدتها قابعة في زاوية المنزل تفكر هادئة، وإن في قلبها لناراً ما يقر قرارها تذيب الحشى وتأكل القلب. فكلمتها فنظرت إليّ بعينين ساهمتين كأنهما لا تبصران شيئاً، فحاولت أن أعيدها إليّ فسردت عليها أجمل ذكريات صباها. حدثتها عن ليالي العقيق، وأطرفتها بنوادر أشعب، وقصصت عليها أقاصيص الشاعر وعبثنا به. بل لقد تلوت عليها أجمل أشعاره، فلم تستمع. فحدثتها عن فرّوخ، فرأيت جسمها يهتز ولونها يشحب شحوباً هائلاً، وألفيتها تحب حديثه لأنه رجْع أحلامها وصدى أفكارها، ولكنها تفزع من حديثه لأنه يذكّرها بآلامها. لقد حدثتها عنه، فقطعت عليّ حديثي وقالت بلهجة حسبتها تجمع كل ما في الدنيا من آلام وأوجاع: كلا ... إنه لن يعود. ولو أن امرأة أخرى كانت في مكانها لفسقت وانساقت في طريق الفحشاء، ولكن سهيلة في دينها وتقواها وشرفها أمنع من أن يستهويها الشيطان. وما أحسب إلا أنها ستجن إلا أن يتداركها الله برحمة منه.