فإذا كان الأمر على ما ذكرناه من مدحهم العلوّ، وذمّهم النزول، فاعلم أن العلوّ في الحديث على درجات خمس:
(الدرجة الأولى): حديث صحّ سنده، وقلّ عدده، وهذا الحدّ الذي وضعناه يعسُر على المبتدىء، ويسهل على المميّز بين الصحيح والسقيم، فربّ إسنادين استويا في العدد، أحدهما ثابتٌ، والآخر واهٍ، لا أصل له، مثاله: ما أخبرناه أبو القاسم قاسم بن أحمد بثغر آمد، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن حشيش العدل، ثنا أبو سعيد الحسن بن عليّ العدويّ، ثنا شيبان بن فرّوخ، ثنا نافع بن عبد الله أبو هرمز، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بركعتي الفجر، فإن فيهما الرغائب".
فهذا إسناد إذا تأمّله من ليس الحديث من صناعته اعتقد علوّه، وقدّمه على سائر حديثه، وافتخر بقلّة عدد رواته، إلا أن إسناده لا تقوم به الحجة؛ لأن نافعًا هذا غير ثقة.
أخبرنا أبو القاسم الإسماعيليّ قال: أنا حمزة بن يوسف، ثنا عبد الله بن عديّ، قال: سمعت أبا العلى الموصليّ يقول: سألت يحيى بن معين، عن نافع أبي هرمز قال: ليس بشيء. وقال ابن أبي مريم: سألت يحيى بن معين عنه، فقال: ليس بثقة. وقال عباس: ثنا يحيى قال: أبو هرمز الذي يروي عن أنس ضعيف الحديث. وقال النسائيّ: ليس بثقة. والعدويّ هذا أيضًا كذّاب.
فإذا ورد عليك أحاديث هذا مع أمثاله، مثل كثير بن سُليم، ويغنم بن سالم بن قنبر، وفرج، وموسى بن عبد الله الطويل، وأبي الدنيا عثمان بن الخطاب، وخِراش بن عبد الله، فلا تفرح بها، ولا تعرّج عليها.
وهؤلاء قوم معروفون عند أهل النقل بطول (?) السنّ، ورواياتهم شبه الريح، يدّعون أعمارًا طويلة، ويروون أحاديث دخيلةً، لم يحتجّ بحديثهم محتجّ، ولم ينقل في كتب الأئمة عنهم شيئًا، وإنما تُنقل أحاديثهم للمعرفة، والاستدلال على كذبهم. أعاذنا الله وإياك من الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا الحدّ الواهي الذي أشرت إليه قبلُ، وقد يقع لأمثالنا بهذا العدد أحاديث مشهورة الأسانيد متّصلة، مثاله: ما أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد البزاز ببغداد، قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق، قال: أنا عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغويّ، ثنا طالوت بن عباد، قال: حدّثني فضال بن جبير قال: سمعت