القديمة قولهم ... "حرًّا أخاف على جانبي كمأة لأقرأ 1 ويضرب مثلًا للذي يخاف من شيء فيسلم منه ويصيبه غيره ما لم يخفه فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال 2:
وحُذِّرتُ من أمر فمرَّ بجانبي ... لم ينكني3 ولقيت ما لم أحذر4
وسرّ الخلط عند الفريقين كما يراه الإمام أنهم بنوا قاعدتهم على أساس اللفظ أو المعنى ولا ثالث عندهما، وليس الأمر مجرد لفظ أو مجرد معنى، إنما هو أمر ثالث جهلوه وهو الصباغة والتصوير والنظم والتأليف، فمن شأن المعاني أن تختلف عليها الصورة، ومن شأن الألفاظ أن تنتظم بمعاني النحو وأحكامه.
مثل ذلك الحاذق في الصناعة حينما يصنع خاتما أو سوارا من ذهب، فالذهب في ذاته وحجمه لا ميزة فيه ولا تفاضل بين قطعة، وإنما الميزة والتفاضل يكون في صناعتها وصقلها، وتنسيق أجزائها، ووضع كل جزء في مكانه المناسب، فتروق النظر وتستهوي اللهب، وتأخذ من النفس مأخذا كبيرا. يقول الإمام:
وقد علنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم من أن شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد ألا تكون، فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذقن إذا هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف وغيرهما من أصناف الحلي، فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم وورطهم فيها تورطوا فيها من الجهالات، وأداهم إلى التعلق بالمحالات، وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسا، وبنوا على قاعدة، فقالوا ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث5 ".
وجملة الأمر أنه كما لا تكون الفضة خاتما، أو الذهب أسوارا أوغيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما، ولكن يحدث فيهما من الصورة، وكذلك لا تكون الكلمة المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم الذي هو حقيقة توخي معاني النحو وأحكامه " 6.