وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي وإنما هو في جودة اللفظ وصفاته: وحسنه، وبهائه، ونزاهته ونقائه، وكثرة طلاوته ومائه، مع صحة السبك والتركيب، والخلو من أود النظم والتأليف" 1.
تحديثه عن اللفظ وطلاوته، والسبك والتركيب، والنظم والتأليف، إنما يرجع غالبًا إلى التصوير، الذي لا يتمّ إلا بهذه الأمور، وبه يتحقَّق الجمال في العمل الأدبي فلولا الشكل لما تميَّز شاعر عن آخر، واتَّصف بالحذق والمهارة، حتى لو كان المعنى الذي يصوره وسطًا، فإنه يدخل في جملة الرائع من القول، لحسن عرضه، وحذق صناعته، وحلاوة لفظه وعذوبته وسلاسته.
وهذا كله يدفع الخطيب والشاعر إلى المبالغة في التجويد والتصوير، ولو كان الأمر يرجع إلى المعنى لوفرا على أنفسهما تعبًا طويلًا 2.
وعدَّ أبو هلال قول الشاعر كثير عزة من الرائع النادر، مع بساطة معناه ودنوّ مادته، وإنما حظى بالجمال، بجودة صوغة، وروعة تصويره، قال كثير:
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح
إلى آخر الأبيات الثلاثة المشهورة، يقول أبو هلال معقبًا عليها: "وليس في هذه الألفاظ كثير معنى، وهي رائقة معجبة" 3.
وإن كان اهتمامه بالشكل واللفظ لا ينسيه المضمون والمعنى، فالشاعر يحتاج إلى شرف المعنى والإصابة نيَّة، كاحتياجه إلى الحسن في الصياغة، ونسج الألفاظ.