وفي غير هذا الوقت الذي تتوهَّج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلَّف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقّق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة ونثور عاطفة.

والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرّر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثنى عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول:

"فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقِّها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك للطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أوجرت من الصناعة على عرق".

فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى

طور بواسطة نورين ميديا © 2015