الرغم من أن "طول اللسان هو الذي قطع الصلة قطعًا حاسمًا بين صاحبنا وبين الأزهر، ودفعه دفعًا إلى حياته التي أتيحت له، وعرضه لسخطٍ أي سخط، وحزنٍ أي حزن؛ وعناء أي عناء"1.
وعلى الشيخ جاويش يلقي طه حسين نصيبًا غير قليل من "ثِقَلِ تلك الفصول الطوال السمجة التي كتبها الفتى فشُغِلَ بها الأدباء والمثقفين حينًا، ثم لم ينقطع استخذاؤه لها وضيقه بها وخجله منها كلما ذكرت له, وكان موضوعها نقد "نظرات" المنفلوطي -رحمه الله, وكان عنوانها "نظرات في النظرات". وما أسرع ما انزلق الفتى من هذا النقد السخيف إلى طول اللسان وشيء من الشتم لم تكن بينه وبين النقد صلة, ولم ينس الفتى مقالًا دفعه ذات مساء إلى الشيخ جاويش، فلم يكد يقرأ أوله حتى طَرِبَ له وأَبَى إلا أن يقرأه بصوته العذب على من يحضر مجلسه ذاك, وابتهج الفتى حين سمع الثناء وأحسَّ الإعجاب, واستيقن أنه أصبح كاتبًا ممتازًا, ثم لم يذكر بعد ذلك أول هذا المقال حتى طأطأ من رأسه ومن نفسه وسأل الله أن يتيح له التكفير عن ذنبه ذاك العظيم, وكان أول المقال:
"عم صباحًا أو مساء، واشرب هواء أو ماء، واستأجر من تشاء لما تشاء فقد وضح الحق وبرح الخفاء"2.
ويذكر طه حسين، فيما بعد، أن أحاديثه تلك عن المنفلوطي قد شغلت الناس حتى تحدَّثَ إليه فيها كل من كان يلقاه إلّا رجلًا واحدًا لم يشر إليها قط على كثرة ما كان يلقاه ويتحدث إليه، وهو مدير الجريدة لطفي السيد3, الذي لم يرض عن هذه الفصول4، ربما لما اتَّسمت به من عنفٍ لا يتفق مع مذهب القصد والاعتدال, سيما وأن طه حسين كان يعيب من المنفلوطي فقط "انه يخطئ في اللغة ويضع الألفاظ في غير مواضعها, يصطنع ألفاظًا لم تثبت في لسان العرب، ولا في القاموس المحيط"5، وربما لأن لطفي السيد كان من المرحبين بالظاهرة الأدبية التي تمثَّلت في فن المنفلوطي، أو في أسلوبه الإنشائي عند ظهورها في الصحافة، وبعد جمع المقالات في كتاب "النظرات" لأن المقالة الإنشائية كانت "قالبًا لفظيًّا" لا عنايةً فيه بالمعنى قبل المنفلوطي، وقبل المويلحي في فصول "عيسى بن هشام" على التخصيص، فكانت كتابة المنفلوطي على عهد "الجريدة" ظاهرة ملحوظة بين المنشئين6.