...
الفصل الثاني: طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر
نتحدث في هذا الفصل عن الدكتور طه حسين وبيئة المقال الصحفي في مصر، لنتبَيَّنَ مكانه من هذه البيئة، ونتعرَّف على الصحف التي حرَّرها أو اشترك في تحريرها، كما نحاول التعرُّف على أثر هذه البيئة في اتجاهات الاتصال الصحفي في مقاله، والأصداء التي تُنْبِئُنَا عن فعالية اتصاله بجمهور القارئين، وفي هذه البيئة التي تمتد زمنيًّا لتشمل النصف الأول من هذا القرن، نجد طه حسين يعاصر عهودًا متباينة من عهود الكتابة والتحرير الصحفي، ويتطوَّر معها على النحو الذي تقتضيه دون أن يُقَصِّرَ في شروطها ومقتضياتها، كما سيجيء.
ويمكن أن نتبيَّنَ في بيئة المقال الصحفي في مصر في النصف الأول من هذا القرن، تطورًا لوظيفة هذا المقال؛ بحيث لم يعد كما كان بالنسبة للأستاذ الأمام جانبًا من جوانب رسالته, شأنه في ذلك شأن الدين والسياسة والأدب، تنصهر جميعًا في شخصية الواحد، فكان لا بُدَّ أن ينساق كل جانب منها إلى دواعي الجوانب الأخرى، فأدبه يتسق مع صحافته، وصحافته تتسق مع سياسته، وسياسته تتسق مع عقيدته الدينية، فلم تلبث هذه الجوانب أن أخذت تنفرط ليضطلع بكلٍّ منها مَنْ يجيد فنونه، فقد جاء العقد الأوَّل من هذا القرن برجالٍ من طراز يختلف عن طراز محمد عبده، من أمثال: لطفي السيد وقاسم أمين، ثم جاء العقد الثاني بطرازٍ ثالث من أمثال: هيكل والعقاد وطه حسين، وأعقبه العقد الثالث بطراز رابع من أمثال سلامة موسى وعلي عبد الرازق، ثم العقد الرابع بطرازٍ خامس تمثَّلَ في توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ومدرسة أبولو، وفي العقد الخامس حدثت حيرة وإرهاصات بالفكرة الاشتراكية، وقامت ثورة يوليو 1952، فأصبحت محورًا رئيسيًّا، واشتدت الصلة بين الفكر والحياة1. ومن الواضح أن هذه الموجات المتلاحقة قد تداخل بعضها في بعض، فأبناء الموجة المعينة منها يبقون على مسرح الحياة الثقافية ليضاف إليهم -لا ليحل محلهم- أبناء الموجات التالية2. ذلك أن هؤلاء جميعًا يجتمعون حول هدف مشترك أعظم، وهو الحرية بكل فروعها وشعابها, والانفتاح على العصر، بينما تسلك كل فئة نحو ذلك الهدف سبيلًا يختلف بعض الشيء في محور ارتكازه عن الفئة التي بدأت من قبل، فكان رجال الموجة الأولى -بعد محمد عبده- أقرب إلى الساسة، وهم الذين تتلمذ عليهم جيل طه حسين، ورجال الموجة الثانية أقرب إلى الأدباء، ورجال الموجة الثالثة أقرب إلى العلماء، على أن الصحافة كانت قاسمًا مشتركًا بين أولئك وهؤلاء جميعًا، حتى جاءت الموجة الرابعة فاستطاعت لأوَّل مرة أن تسلخ الأدب عن السياسة وعن الصحافة معًا3.
وتأسيسًا على هذا الفهم، فإننا نتحدث عن طه حسين في بيئتين: الأولى: بيئة التكوين في مطلع القرن, والثانية: بيئة المقال الصحفي بعد ثورة 1919.