وتأسيسًا على ذلك، فإن مكانة الدكتور طه حسين، كما سيتبين من شواهد الدراسة، إنما تحددها المعركة المتواصلة في سبيل الحرية، وأيًّا كانت المحاولات التي بُذِلَت في التعرُّف على سيرته الذاتية في "الأيام" ومحاولة التعرُّف على أبعاده، فإن القليلين هم الذين يستطيعون أن يتبينوا أن ظرفه الخاص كان بعيد الأثر في استشعاره بذاته أولًا، وبمكان هذه الذات من الأُطُرِ الاجتماعية في الحياة ثانيًا1، وفي اندفاعه انطلاقًا من واقعه وتحديداته، يحقق ذاته بالدعوة إلى حرية الفكر, وبالإلحاح على تعقيل الحياة، وهذه هي الأصول التي يقوم عليها منهجه المعروف في النقد وتاريخ الأدب2، ويتركَّز عليها عمله في الجامعة وفي الحياة العامَّة من خلال الصحافة والسياسة، وتستند إليها دعوته إلى الثقافة والتنوير وإشاعة المعرفة.
وقد أتاحت له هذه المدرسة الفكرية أن يستشعر ذاته من خلال استشعار الذات القومية التي لم تمح من "الأدب المصري محوًا تامًّا في يوم من الأيام"3 ويقول في هذا الاندماج بين الذات الفردية والذات القومية قولًا صريحًا:
"ولست أعتقد أن كلمة "أنا" لم يكن لها مدلول في لغة المصريين, ولست أعتقد أن المصريين كانوا في شبه إغماء حتى أقبل هذا الجيل الذي نتحدث عنه، فردَّ عليهم الحياة والنشاط. كل ما يمكن أن يصح لك هو أن الشخصية المصرية في الأدب كانت ذاويةً ذابلةً إلى حَدٍّ بعيد في وقت من الأوقات لعله يبتدئ بآخر عصر المماليك, ولكن هذه الشخصية على ذبولها وفتورها لم تمت ولم تمح، بل ظلت حية تتردد أشعتها الضئيلة في آثار الكُتَّاب والشعراء والعلماء، إلى أن كان العصر الحديث"4.
وفي هذا العصر الحديث أتيح لمدرسة الجريدة أن تشيع هذا الاستشعار بالذات القومية، كما أتيح لمعلمها أن يفتح لجيل طه حسين "طريق الاستقلال الأدبي"5, ولذلك يقرن طه حسين، لطفي السيد بصديقيه المصلحين محمد عبده وقاسم أمين6؛ في تكوين الأُطُر العقلية والسياسية والاجتماعية التي وجهت تفكيره، وهي الأُطُر التي وسمت المقال الصحفي لرواد الجريدة وتلاميذها من خلال التجديد والترشيد والتعقيل، كما فعلت هذه الأُطر في تميز مقالات "مونتاني بنزعة التعقيل"7 من قبل, وميَّزت فن المقال بوجه عام بين فنون