الرأي ماضي العزم، قوي الأمل، كأحسن ما يكون الرجل استعدادًا لاستقبال الخطوب، واحتمال الآلام في خدمة هذا البلد الحزين.
وما أظن أن المصري يملك في هذه الأيام شيئًا يستطيع أن يقدمه إلى وطنه خيرًا من الإخلاص والنصح، وصدق العزيمة، وحسن الاستعداد لاستقبال الخطوب. فإن كان هذا هو الذي ينتظره مني أصحاب الكوكب وقراؤه, فهم واثقون منذ الآن بأنهم سيبلغون منه ما يريدون، وإن كانوا ينتظرون مني غير هذا فليعذروني إذا لم أعدهم بشيء.
وأيّ شيء يستطيع العاملون أن يقدموه إلى مصر في هذه الأيام التي قُصَّت فيها الأجنحة، وشُدَّت فيها الألسنة فلا تقول إلا بحساب، وعُطِّلَت فيها الأقلام فلا تجري إلا بمقدار، وضُيِّق فيها على الناس فهم مضطرون إلى أن يفكِّروا ويطيلوا التفكير قبل أن يقولوا أو يكتبوا، إلى أن يقدروا فيطيلوا التقدير قبل أن ينشطورا لأمر من الأمور.
كل شيء ضيق من حولنا, فقد استكشفت الوزارة منذ نضعت بالحكم, أو منذ همَّت أن تنهض بالحكم أن الدستور أوسع مما ينبغي فضيقته وبالغت في تضييقه, ولم تكد تعلن إلينا هذا التضييق وتأخذنا بتصغير عقولنا وتقصير ألسنتنا والكبح من أقلامنا والحجر على آمالنا لتلائم حياتنا الدستور الجديد حتى استكشفت أن هذا الدستور الجديد نفسه يكفل لنا حرياتٍ أكبر مما ينبغي, وإذا هي تضيق هذه الحريات بألوان التشريع مرة, وبسلطانها الإداري مرة أخرى، أو إذا هي قد اتَّخذت موازين دقيقة شديدة الدقة، رقيقة مسرفة في الدقة, حساسة جادة الحسِّ، تعيش بها ما ترى, وما نقول وما نعمل، وتأخذنا بما تنكر هي من ذلك كله ما لا ينكر العرف, ولا بما ينكر الدستور, ولا بما تنكر الديمقراطية الغالية في الضيق.
وإذا انتقالنا في الغدوِّ والرواح يرصد ويرقب ويقدر فيباح أو يحذر, وإذا كلامنا يؤول على وجهه حينًا, وعلى غير وجهه أحيانًا. وإذا تفكيرنا يتهم, وإذا كل شيء نأتيه مرغوب عنه, وكل شيء نأباه مرغوب فيه, وتمضي الأسابيع والأشهر, وإذا الوزارة تستكشف أن هذا السياج الضيق الذي أحاطتنا به وحصرتنا فيه لا يكف؛ لأن عقولنا لا تزال واسعة أوسع من هذا السياج، وإرادتنا لا تزال قوية أقوى من سلطان الوزارة, فلا بُدَّ إذًا من أن تضيق العقول, وتضعف الإرادة, وتنحل العزائم. وأي وسيلة أدنى إلى تحقيق هذا من تضييق التعليم ومراقبته والسيطرة الشديدة المحرجة عليه في جميع فروعه وألوانه, وإذًا فلتبسط الوزارة سلطانها "وقد فعلت" على التعليم, ولتجمعه كلها إليها, ولتعصره كله في يدها، ولتضغط ما وسعها الضغط, ولتقبضه ما وجدت إلى قبضه سبيلًا.