ثالثًا: التحليل الصحفي وحركة الأحداث

ونخلص مما تقدَّم إلى أن المقال التحليلي الصحفي يقوم على تفسير النبأ أو الخبر في ضوء حركة الأحداث عمومًا، والنبأ الجديد المجهول الدلالة, تتكشَّف عناصره المجهولة بربطه ببعض الدلالات عن طريق تحديد موقعه داخل إطار مجموعة من الأنباء والأحداث المعلومة. ولكن إذا كان الخبر أو النبأ تشكيلًا لحدث من الأحداث، فإن المقال التحليلي لا يقوم على الخيال، والفرق بينهما أن الخبر أو النبأ يستمد عناصره من الواقع مباشرة، أما المقال التحليلي فينتظم تجاربه وعناصره المستمدة من الخبر, أي: من الواقع, بعد أن ينقله النبأ في شكله الخبري.

وعلى ذلك فإن المقال التحليلي ليس غاية في نفسه، وليس فنًّا منفصلًا مستقلًّا, وإنما يرتبط بحركة الأحداث ارتباطًا لا انفصام له. أي: إنه كتحليل صحفي يفسر الأخبار ويغذيها ويقومها، بهدف مساعدة القارئ على تفهُّم حركة الأحداث من حوله، بتقويم المعايير المطلوبة من خلال التحليل والتفسير، ولذلك, فإن المقال التحليلي ينظر للأخبار باعتبارها سلوكًا اجتماعيًّا، الأمر الذي يحدد الدور الوظيفي للتحليل الصحفي في إطار حركة الأحداث في المجتمع المحلي أو الدولي.

على أن عنصر التقويم الذي يضفيه طه حسين على تحليله الصحفي، يضيف إلى المقال التحليلي الحديث سمة أخرى تستحق أن ينوه بها، وهي أن كل كاتب تحليلي ينزع إلى أن تكون لديه صورة مجازية فائقة، أو عدد من الصور يرى من خلالها حركة الأحداث، وهذه الصورة بالتالي تشكل تحليله الصحفي وتنبئ عنه، وتجعله أحيانًا محدودًا، فالمقال التحليلي -على هذا الفهم- يمكن أن يتخذ صورة جرَّاح سحري يجري العملية دون أن يقطع الأنسجة الحية، وقد يكون في صورة "مولد" يظهر للواقع نسمة جديدة، تتيح لحركة الأحداث واقعًا مستقبليًّا أفضل.

إن ما لاحظناه فيما تقدَّم من أسباب التحليل الصحفي ليترشح من خلال هذه الصور المجازية، كما يترشَّح من خلال شيء غير ملموس، نعني به جهاز الذكاء الشخصي لكاتب التحليل, ومعرفته ومهارته وحساسيته وقدرته على الكتابة الحالية، فالذكاء عند طه حسين يكفيه في مقاله بما يلائم التحليل الصحفي الذي يعالجه، والمعرفة من صحفية وغير صحفية؛ ليكون على وعي بما يتطلبه المقال التحليلي، والمهارة تتيح لهذا المقال أسلوبًا استقرائيًّا يضمن سلامة التحليل، والحساسية عند طه حسين هي التي أتاحت لمقاله دائمًا التنويه بالقيم الخاصة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015