فيها؛ لأن الحوادث والنظام قد أحوجته إلى الحيلة وحسن التخلُّص, واضطرته إلى التصرُّف بين الناس على حذر وكياسة توافق مصلحته وتليق بأدبه"1، ولذلك وجدنا المقال الكاريكاتيري عند طه حسين يقترن بضرب من التنويه الخفي والتلميح الذكي، كما تبين من النماذج المتقدمة، حيث يشير من طرف خفي إلى شيء أو حدث أو شخص، قد يكون هذا الشخص وزيرًا أو رئيسًا للوزراء، دون أن يعرب صراحة عمَّا يقصد، كما يبين من الكاريكاتير السياسي في المقال، وكما تبين من الكاريكاتير الصحفي عند طه حسين بصفة خاصة، حيث يقتضي هذا النوع من الكاريكاتير المقالي النزالي، تفوقًا في النزال أو الهجوم "aggression", لكي يعرب بطريقة رمزية عن شعور العداء أو الرغبة في المهاجمة أو النزال.
وقد يكون من الحديث المعاد أن نقول: إن الكاريكاتير الوظيفي في المقال الصحفي العربي في جانب كبير منه عملية عقلية تقترن بالكثير من مظاهر النشاط الذهني الذي تميز به: كالفطنة وسرعة البديهة والسخرية والتهكُّم والقدرة على التلميح والبراعة في الردِّ والتفنُّن في استخدام الأسرار اللغوية العربية.. إلخ، ولكن على الرغم من استخفاف المقال الكاريكاتيري بأحداث الواقع السياسي أو الاجتماعي، فإن هذا الاستخفاف لا يخلو من صبغة عقلية ناقدة تميَّزَ بها طه حسين، يخاطب من خلالها عقول قرائه أكثر مما يخاطب العاطفة والوجدان.
ولو أننا رجعنا إلى تصنيف بعض علماء النفس لضروب الهزل، لوجدنا أنهم يقسمونها إلى ثلاثة أنواع هي "الفكاهة" "Humour" و"النكتة" "صلى الله عليه وسلمspirt" والكوميديا "Comique", وتقابل هذه الأنواع الثلاثة في حياتنا النفسية، على التعاقب، الوجدان والنزوع والإدراك1. فالكوميديا هي من بين ضروب الهزل جميعًا أقربها إلى الكاريكاتير المقالي, من حيث القرب إلى قطب الإدراك أو العرفان أو المنطق، فالمقال الكاريكاتيري بالتالي "فن عقلي" يقوم كغيره من فنون المقال الصحفي على النشاط الإبداعي, وإذا صحَّ ما قاله "دولاكروا"3 من أن الفن صناعة خلق أكثر مما هو وجدان وعاطفة. فإن من واجبنا أن نطبق هذه الحقيقة على فن المقال الكاريكاتيري فنقول: إنه هو الآخر قدرة عقلية على تنظيم الواقع في جسم حي هو ما نسميه بالمقال الكاريكاتيري.
ولكن المقال الكاريكاتيري كأثر فني بهذا المعنى ليس تصويرًا للقيم العليا والمثل الأخلاقية السامية، وإنما هو تحوير لمثالب الواقع وعيوبه ونقائص أشخاصه ومظاهر ضعفهم, في إطار ينطوي على "انسجام معكوس