أحيانًا، في القاهرة حينًا, وفي الأقاليم أحيانًا، بل في مصر حينًا, وفي أوروبا أحيانًا"1 ... إلخ.

ويتوسَّل طه حسين بالاواقعية الكاريكاتيرية في تصوير تناقض الوزارة، حين ينضاف عنصر المبالغة، والتهويل إلى عنصر التضاد أو المفارقة، فلا يلبث أن يخرج بموقف المقال كله إلى عالم آخر هو الاستحالة، التي تسخر من الواقع السيء، كما نجد ذلك في مقال بعنوان: "جوع"4 يقول فيه:

"أما إن وزارتنا شفيقة على الفقراء، رفيقة بالبائسين تتولاهم بالبر الذي لا حد له, وتشملهم بالعطف الذي لا ينتهي إلى غاية، وتذود عنهم ألم الجوع، وترد عنهم المشقَّة والضر، وتغمرهم باليسر والنعيم، فشيء ليس إلى الشك فيه من سبيل، إلا أن تكون مكابرًا تحب المكابرة، أو مماريًا تتهالك على المرء، وفي أي بلد من بلاد الأرض ترى الفقراء والبائسين, رغم هذه الأزمة العنيفة ينعمون بخفض العيش، ويأخون من لذات الحياة ما يريدون وفوق ما يريدون كما تراهم في مصر الآن، تستيطع أن تطوف في المدن والقرى، وأن تجوب أقطار الريف, فلن ترى جائعًا ولا محرومًا, ولن ترى مفلسًا ولا مأزومًا، ولن ترى شقيًّا بالحياة ولا بائسًا منها، ولا زاهدًا فيها، إنما الناس جميعًا في صفوٍ لا يشوبه كَدَر، ولين لا تشوبه قسوة، كلهم فرح مرح, وكلهم سعيد مبتهج, وكلهم باسم للحياة, مقبل عليها, مستزيد منها، وتستطيع أن تطوف في القاهرة فترى من مظاهر السعادة واليسر، ومن آيات النعيم وصفو العيش ما يضطرك إلى أن تسأل نفسك: كيف أعرض الفقراء والبائسون من أهل الأرض عن مصر، وكيف لم يرحلوا إليها, ولم يتساقطوا عليها، وقد أصبحت مصر في هذه الأيام السود جنة الله في الأرض من غير شك ولا مراء، لقد كان يسخر فولتير حين صور في قصة من قصصه المشهورة قطرًا من الأقطار الأمريكية يمشي الناس فيه على الذهب, ويعبث الأطفال فيه بالأحجار الكريمة، وتنحط فيه قيمة المعدن والجوهر حتى يأبى الناس أن يتخذوهما أساسًا للتعامل, أو ثمنًا للبيع والشراء.

"كان فولتير يسخر حين صور هذا القطر, فلو قد عاش فولتير إلى هذا العهد السعيد الذي نحن فيه لعلم أن سخريته قد أصبحت حقًّا، وأن هزله قد أصبح جدًّا, وأن مصر إذا لم يمش الناس فيها على الذهب، ولم يعبث الأطفال فيها بالدر والياقوت, فإن الناس فيها لا يعرفون ألمًا ولا ضرًّا، ولا يخافون أن يصيبهم ألم أو يمسُّهم ضر"3

ثم ينتقل طه حسين من هذا التصوير اللاواقعي للواقع، إلى ما يسميه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015