والخصلة الثانية، أنه جاحظي الأسلوب كأشد ما يكون الأسلوب جاحظيًّا، يستخدمه استخدامًا وظيفيًّا هادفًا، ويتمثَّل تهكُّمه في الكاريكاتير تمثلًا وظيفيًّا، يستعين فيه بضروبٍ من المفارقات والمتناقضات التي تتجلَّى في الهوة السحيقة بين "ما كان عليه أحمد بن عبد الوهاب من عيوب جسدية, وما يدَّعيه من الكمال الجسماني"1، حتى لقد استطاع طه حسين أن يتوسَّل بهذا الأسلوب الجاحظي في توقيع جزاء اجتماعي على "صدقي باشا" إبَّان المحنة الدستورية، على النحو الذي نفذ إليه الجاحظ عند حديثه عن "أحمد بن عبد الوهاب". فهو أسلوب يتفوّق فيه على أصحاب التصوير الكاريكاتوري في العصر الحديث, الذي يعتمد على إبراز العيوب, وتجسيم بعض الأعضاء, وتصغير بعضها الآخر؛ بحيث تنجم عن هذا التباين صورة غريبة طريقة تبعث على السخرية.
ويختلف المقال الكاريكاتيري عند طه حسين عنه عند الجاحظ، من حيث الوظيفية الهادفة عند الأول، في حين أنه عند الجاحظ يهدف إلى الفنِّ المحض والمتعة الخالصة, دون أن يقصد من ورائها إلى نصحٍ أو تهذيبٍ أو عبرة، كما نجد في مقال طه حسين. ولكنهما فيما عدا ذلك يتفقان في سهولة الأسلوب ومرونته ووضوحه, وفي أن هذا الأسلوب أصبح طيِّعًا يستطيع الكاتب أن يتصرَّف فيه كما يحب دون أن يستعصي عليه2. وفوق هذه المرونة واليسر يتفق أسلوب كل منهما في خصلة أخرى هي الموسيقى، فالنثر أيام الجاحظ، وعند طه حسين، لا يلذ العقل وحده ولا الشعور وحده، ولكنه يلذ العقل والشعور والأذن أيضًا؛ لأنه قد نُظِّمَ تنظيمًا موسيقيًّا, وأُلِّفَ تأليفًا خاصًّا له نسب خاصة، فهذه الجملة لها هذا المقدارمن الطول، وهذه الجملة تناسب هذا الموضوع، وإذا قصرت الجملة لاءمتها تلك الجملة, وإذا ضخمت ألفاظ هذه الجملة كانت الجملة التي تليها على حظٍّ من السهولة، وهكذا3, فنجد أن النثر أيام الجاحظ قد تغيَّرت موضوعاته, وطغت فنونه على فنون الشعر، وسهلت ألفاظه، وأصبح يسيرًا طبعًا، ودخلته الموسيقى، فغلب الشعر حتى في أخصِّ الأشياء به وهو الموسيقى، وهذا إلى العلوم التي عمد النثر عنها4، ونجد نفس الأمر بالقياس إلى طه حسين، الذي تخلَّى عن قرض الشعر منذ مرحلة التكوين ليتفرغ إلى النثر المقالي, الذي يمتاز بتغيُّر الموضوع وطغيان فنونه على فنون الشعر، ومنها هذا الفن الكاريكاتيري المقالي، الذي كان في الأصل غرضًا من أغراض الشعر, وهو: الهجاء، وسهلت ألفاظه، التي طوَّعها لما نشأت من الحاجات والأغراض5، ذلك أن الناس "لا يصطنعون الشعر للإعراب عما يضطرب في نفوسهم من شئون الحياة اليومية, وهم لا يحرِّرون الصحف شعرًا, ولا يكتبون فيما يريدون