الأفكار وخُلُوّ الكتابة من الروح كما يحدث في عصور الانحطاط دائمًا1، وكما حدث في العصر العثماني من بعد.
ومهما يكن من شيء، فقد فرضت البيئة المصرية على المصري ذهنًا عمليًّا واقعيًّا، سهل المنطق واضح في نظرته إلى الدنيا وحكمه على الأشياء والناس، شأنه في ذلك شأن أبناء الأمم الزراعية عامة2، وهذا الذهن العملي هو الذي يبدع الفن الصحفي، باتجاهه العملي وبلغته العملية الواقعية, وهو على ذلك أصلح الأذهان للإبداع في فنِّ المقال الصحفي على ما نعرفه اليوم.
وإذا كانت بذور الأدب المقالي قد وجدت في الحضارة المصرية القديمة, فإن هذه البذور في الأدب العربي الذي تمثلته مصر الإسلامية من بعده، توجد في "الأمثال وجوامع الكلم", وذلك شأن الأمم في بداوتها، فالمثل قريب بطبيعته وصياغته من فن المقالة التي أراد لها "مونتاني" أن تكون صورة صادقة عن إحساسه بالحياة وتأمله لها، لا يلحقها أيّ تشذيب أو تصنع. وذلك ما نجده عند العرب قبل الإسلام، وذلك أنهم كانوا أمة شعر، لها حياتها الاجتماعية والسياسية الخاصة, "فلما جاء الإسلام تغيرت هذه الحياة الاجتماعية والسياسية وحلَّ محلَّها نظام جديد يقوم على وحدة الأمة, وإدماج الأمم الأخرى في الإسلام، ونشأ عن ذلك اطلاع العرب على ما كان لهذه الأمم من آراء وأفكار، وديانات وعلوم وفلسفة, فأخذ العرب في هذا العصر الجديد يفكرون ويرون، وظهرت أمامهم مسائل ومشكلات جعلتهم يفكرون ويتلمسون لها الحلول, الأمر الذي أدَّى إلى تغيُّر موضوعات التفكير وأسلوب التعبير، فنشأن النثر الذي "يعبِّرُ عن المعاني بدون القيود الشعرية"3.
ومن ذلك يتبين أن التراث العربي القديم في عصره الأول لم يعرف المقال بمعناه الاصطلاحي لدينا، ذلك أن المدلول الحتمي لهذا اللفظ هو "القول", فإذا ذكر النابغة في معلقته وهو يعتذر إلى النعمان ويحاول أن يرد التهمة التي ألصقت به، وأن يقذف بها أعداءه.
مقالة أن قد قلت: سوف أناله ... وذلك من تلقاء مثلك رائع
فإنما هو يعني: القول, وإذا قال الجاهلي أو العربي بعد الإسلام: هذه مقالة صدق، فإنما يريد ما نريده اليوم من تعبيرنا: هذا قول صادق أو حق.