بأنه صديقه الذي يحدِّثُه حديثًا يهم القارئ والكاتب بدرجة متساوية، كما يشعر القارئ بأنه "يستمع إلى بعض إخوانه يدور معه, ويدخل معه في شجون من الحديث لا يحب أن يصل إلى نهايتها", ونجد في هذا الصدد تطبيق طه حسين للروح الديمقراطية التي يؤمن بها فيما يكتب؛ لأنه يجعل من المقال الصحفي محاولة هادئة لجذب القراء إلى صحيفته، سواء كانت صحيفة حزب أقلية مثل "السياسة", أو صحيفة حزب الأغلبية مثل "كوكب الشرق", فهو يشعر قراءه بأنهم شركاء في حلِّ المشكلات العامة، وفي ذلك ما يفسِّر اعتماده على ضمير المخاطب في معظم مقالاته، فهو مثلًا يقول:
"إذا رأيت في النظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي شرًّا واقتنعت بأن إزالته واجبة، وبأن إقرار الخير مكانه أمر محتوم، كان من حقك أن تدعو لي ما ترى، وكان من الواجب عليك أن تلحَّ في الدعوة لما ترى، وكنت آثمًا في حق نفسك إن كتمت رأيك وأخفيته على الناس، وكنت آثمًا في حق الناس إن لم تدلهم على مواطن الشرِّ في حياتهم، ولم ترشدهم إلى ما فيه المنفعة والخير.
"هذه أوليات يخيّل إلى مَنْ يقولها أنه لا يقول شيئًا جديدًا، ويُخَيَّلُ إلى من يسمعها أنه لا يسمع شيئًا طريفًا؛ لأن ترديدها قد كثر بين الناس في جميع العصور، وفي جميع البيئات, حتى سئمها القائلون والسامعون، ولكنها على ذلك ما زالت غامضة, ولا زال غموضها مصدر الشر الكثير في حياة الأمم والشعوب، ولعل غموضها مصدر ما نحن فيه الآن من فساد واضطراب. فقد نخطئ في الخلط بين الحق والواجب، وقد نغول في تقدير هذا الحق وهذا الواجب، وقد يضطرنا هذا الخطأ وهذا الإسراف إلى أن نريد الإصلاح فنسيء، ونقصد إلى الهداية فنضلَّ، ونتعمَّد الإرشاد فنتورط في الاعتداء، نقتنع بالرأي فيغرنا هذا الاقتناع، ويخيل إلينا أننا نحن وحدنا المصيبون، وأن غيرنا جميعًا مخطئون, ثم لا نلبث أن يملكنا هذا الغرور ويدفعنا إلى إهدار الحرية, وإذا نحن نحاول أن نفرض آراءنا على الناس فرضًا، وأن نكرههم على ما نحب لهم من الخير إكراهًا, وإذا نحن نزعم لأنفسنا العصمة ونبرئها من الخطأ، ونقدِّس آراءنا تقديسًا, ونتخذ الذين لا يشاركوننا فيها ولا يظاهروننا عليها أعداء, ونسير فيهم سيرة الأعداء.
"ولعلك حين تريد أن تفهم الأزمة التي اضطرنا إليها رئيس الوزراء والذين يؤيديونه, لم تجد لها تفسيرًا غير هذا الغرور الذي يتورَّط فيه أصحاب الآراء في السياسة والاقتصاد والاجتماع. ظن رئيس الوزراء وأصحابه أن نظامنا السياسي القديم شرّ؛ لأنه لم يكن يلائم آمالهم وأطماعهم ومثلهم العليا