القرين: من يوميات وزير قديم 1
"5 مايو سنة....".
"لم أر قط أعجب مما رأيت اليوم، ولن أمضي في تسجيل الأحداث السياسية والإدارية والأعمال اليومية الخاصَّة التي تعوَّدت أن أسجلها في هذا الدفتر قبل أن أقصَّ هذا الحادث الغريب الذي شهدته أو الذي حدث لي في مكتبي صباح اليوم.
"لم أكن نائمًا وما أعرف أن الوزراء تعودوا النوم في مكاتبهم، وما أعرف أني تلقيت النوم, أو أن النوم تلقاني إلّا حين آوي إلى مضجعي بعد أن ينتصف الليل. وقد أشهد مجلس الوزراء متعبًا مكدودًا، وأضيق بما يُقَال فيه أحيانًا من أحاديث لا تغني, وبما يُعْرَض فيه من شئون لا تعني وزارتي ولا تعني السياسة العامة, فأرسل نفسي في ألوانٍ من التفكير ليس بينها وبين مجلس الوزراء صلة. وقد أكون متعبًا فلا أستطيع التفكير, وإنما أظلُّ حاضرًا كالغائب وغائبًا كالحاضر، أسمع وأرى ولا ألقى إلى شيء مما أسمع وأرى بالًا، وأنا على هذا كله يَقِظٌ أشد اليقظة, متنبه أشد التنبيه, أرى بعض الزملاء وقد أخذ رأسه يخفق من النعاس، وأسمع بعض الزملاء وقد أخذ يَغُطُ لأنه أغرق في نوم عميق، وقد أعبث بهذا وألفت الزملاء في شيء من المكر إلى ذلك.. والمهم أني لم أتعلق على نفسي ولم يتعلق عليّ أحد بنومة في مجلس الوزراء"2 إلخ.
ويستمر المقال في تسجيل اعتراف الوزير القديم، وكشف "القرين" لنقائصه وعيوبه، في أسلوب يشعر القارئ معه أنه يقرأ "يوميات" كتبها الوزير فعلًا نفسه، ولم يزد طه حسين على أن سجلها وأذاعها بين الناس، وتلك قدرة من قدرات طه حسين في أداء وظائف مقاله الصحفي على النحو الذي ينشده من وراء هذا النموذج.
ومن أجل هذا تغدو "اليوميات الصحفية" في مقال طه حسين أقرب بأنواع فنه الصحفي إلى محيط الأدب، من حيث القيم الفنية التي يمتاز بها، مثل عمق التفكير, وغزارة الشعور, وجمال التعبير, والقدرة على التأمُّل في سلوك الأفراد والجماعات, ولكنَّها تمتاز عن المقال الأدبي بأنها تقصد الذيوع والانتشار في الاتصال بالجماهير, ولذلك تتعرَّض لبعض طبقات المجتمع، ولحالات غريبة من حالاته وأوضاع شاذة من أوضاعه قد تعود بالفائدة على القارئ.