الحديثة، ثورة على الشكل والقواعد1، ذلك أن الاعتراف يتطلَّب حرية في عدد شخصياته وطريقة نمذجتهم، وفي تصوير الحالة النفسية والفكرية وقت كتابة المقال.
وبهذا الأسلوب صوَّر صاحب الأيام رحلة طويلة ومجاهدة عنيفة وبذلًا وتضيحات في سبيل أن ينقل الحياة الفكرية في وطنه من حالة الجمود والتقليد إلى الحياة النابضة النشطة, التي تبشِّرُ بمجتمع حديث, وكانت حياته كلها صيحات متلاحقة في سبيل أن تنطلق من الحدود ومن جمود المجتمع التقليدي إلى هذا الفضاء الرحب. ومنذ أول سطور الأيام نَحُسُّ هذه الرغبة العارمة في نفس الصبي وهو يبدأ حديثه عن "السياج" الذي كان يسدُّ عليه الأفق. كم ذا يرمز السياج -على حَدِّ تعبير الدكتورة سهير القلماوي2- إلى شعوره بالقيد والسجن، وكم ذا يثير صوت المنشد على الشاطئ الآخر من القناة من أحلام الانطلاق والحرية. أو القناة محاطة من يمين وشمال بما هو أكثر من السياج بحدودٍ معنوية أو إنسانية أو حيوانية "العدويين" وكلابهم, وسعيد وشرَّه وزوجه "كوابس" ذات الحزام أو الحلقة من ذهب في أنفها التي تؤذي الصبي وهي تقبله إذا زارت منزله3.
وشعوره بظرفه البصري الخاصِّ مبثوث في الأجزاء الثلاثة من الأيام, شعور صاحَبَه ما صاحبته النفس, فلقد نشر "الأيام" في كتاب: الجزء الأول سنة 1929, والجزء الثاني سنة 1940, والجزء الثالث قبيل وفاته سنة 1972، وعلى مدى الأجزاء الثلاثة، يشعرنا بمعاناته لهذا الظرف البصري وما يستتبعه من ألم وشعور بالشيئية على اختلافٍ واضح في تعبيره عنه في كل فترة من فترات حياته4. فما يلبث أن يخف هذا الشعور بالشيئية في الجزء الثالث, فهو يتحدَّث عن شابٍّ وصل إلى فرنسا في بعثة دراسية بَدَّلَت حاله تبدلًا كبيرًا, وعرف طريقه إلى الحياة5. الأمر الذي يجعلنا نذهب إلى أن إحساسه بظَرْفِه البصري لم يعد بنفس الحِدَّةِ التي كان عليها حين صوَّر المجتمع التقليدي الذي تسبَّبَ في هذا الظَّرف، ذلك أن مقالات الجزء الثالث تصوّرُ انتصار الإنسان المصري على جمود المجتمع التقليدي، وتجاوز قيوده بالعلم والمعرفة.
ولقد فرض عليه هذا الظَّرف الخاصّ أن يرصد فنيًّا إيحاءات الصوت بالنسبة إليه، فلقد كان الصوت وسيلته إلى معرفة الشخص وحكمه عليه.