وبواكير الصبا وصور البيئة الريفية، فانتزعها من أعماق الذاكرة، وصوَّرَها بما يناسب الموقف النفسي والفكري، وهو الإكبار من شأن الفكر الإنساني, والإلحاح على حريته, والاستخفاف -بل الاستعلاء- على المحافظة والتقليدية والجمود.
ويذكر الدكتور عبد الحميد يونس1 في هذا الاقتران بين المقال الاعترافي ومحنة الشعر الجاهلي، حين طلب إلى الدكتور طه حسين أن يكتب بنفسه مقدِّمة خاصة للطبعة البارزة من الأيام، أنه وجده يسجِّل هذه الحقيقة، وهي أنه كان استجابة "للهموم الثقال" التي كان يحسُّ بها وقتذاك, إبَّان الاضطهاد الذي وقع عليه من أجل تحرير الفكر باصطناع الشك في الروايات القديمة التي جعلها المحافظون في مكان المسلمات والمقدَّسات والبديهيات.
على أن هذه الاستجابة "للهموم الثِّقَال" ترتبط باستجابة أساسية في استراتيجية القومية، ونعني: نشر المعرفة، ونشر الضوء في مصر الحديثة، وهذه الاستجابة هي التي تَكْمُنُ وراء المقالات الاعترافية عند طه حسين، لتعرية ذاته, وإظهار نفسه وبيئته في ما لها وما عليها، وذلك لإشراك الآخرين في التجارب النفسية والفكرية التي عاناها، ومحاولة تجنيب أبناء مجتمعه الآلام التي عاناها بسبب الأوضاع الاجتماعية التقليدية الجامدة2. وهي أيضًا التي تَكْمُن وراء واقعية التصوير في مقالات الأيام، ذلك أنَّ طه حسين حين يذهب إلى تصوير هذا المجتمع التقليدي، كان عليه أن يصفَ المجتمع الريفي أصدق الوصف، وأدق ما يكون التصوير، حتَّى يمكن تشخيص علل الجمود في هذا المجتمع, فلم يتكلَّف في تزويق الحديث، ولم يجنح إلى اختراع الحوادث، ولم يرغب في إخفاء الحقائق عن عين القارئ.
ولذلك يذهب إلى التوسُّلِ بأسلوب اعترافيٍّ جديد يتيح له تقديم الشخصية, أو النموذج عندما يظهر على مسرح الأحداث لأول مرة3 كما تُقَدِّمُ الشخصية المسرحية نفسها بمنظرها الخارجي وأبرز سماته، ثم يتجاوزها إلى تفصيل دورها, أو رواية الحادثة التي تتطلَّب روايتها وجوده4. وهو أسلوب يتمتع بنوع من الحرية, أو قد يستساغ من التفكك في الحديث العام أو في الشخصيات الرئيسية، كما يذكر ويتذكر ما يشاء دون مراعاة ترتيب زمني أو معمار هندسي, كما يفعل الروائي حتى في أكثر أنواع الرواية