إلّا أننا نكتفي بالإشارة إلى نموذجين منها في مقال بعنوان: "مذهبان"1, وآخر بعنوان: "صراع"2، حيث يفحص مجموعة من الظواهر المعاشة ابتغاء الكشف عن عللها, عن طريق وصفها وتقرير حالتها وفاقًا للواقع المحس، ففي المقال الأول يفحص مذهب الحكم، ويكشف عن انحرافها في مصر: " ... هذا هو مذهب الناس عامة في فهم الحكومة وفهم واجبها، وفهم الصلة بينها وبين الشعب. ولكن المذهب الآخر الذي يراه فريق من المصريين, والذي هو أقرب إلى الحق وأدنى إلى الصواب, ينحو نحوًا آخر غير هذا النحو في الحكم والفهم والتقدير، فالحكومة عند هؤلاء المصريين وجدت لإقرار الأمن، ولكن لإقرار أمنها هي قبل أمن الشعب، ووجدت لحماية الأنفس والأموال، ولكن لحماية نفسها هي وأموالها من قبل أنفس الشعب وأمواله"3. وهو لا ينتهي إلى هذه النتيجة، ووصف هذا المذهب إلّا عن طريق تقرير حالته وفاقًا لشواهد الواقع المحس, فهو حين يتحدَّث في المقال الثاني عن "الصراع بين الحياة والرأي في مصر، لا يتحدث عن صراع مجرَّدٍ، ولكنه يكشف عن معلولات هذه الظاهرة عن طريق وصفها وإدراك العلاقة بين الظاهرة ومعلولها، ذلك أن كثيرًا من المصريين "مع السف الشديد لم ينشأ تنشئة حرة، ولم يتكوَّن هذا التكوين الذي يمكِّنُه من أن يفهم الحياة على وجهها"4 وأن هؤلاء "مع الأسف الشديد يُخَيَّلُ إليهم أن الحياة هي الحركة والنشاط، وهي الطعام والشراب"5، وهؤلاء في نهاية الأمر "مصدر ما تجده في مصر من محنة، وما تخضع له من فتنة في السياسة والرأي والمال، ولا لشيء إلّا لأنهم يريدون أن يعيشوا، ولا لشيء إلّا لأنهم لا يستطيعون إلّا أن يعيشوا"6.. إلخ.
فالأسلوب الاستقرائي إذن في مقال طه حسين يقوم على ملاحظة الجزئيات والأحداث ووصفها وتقرير حالتها، وإن كان لا يقنع بالوصف والتقرير, وإنما يتجاوز ذلك إلى الكشف عن العلاقات العلية بين بعضها والبعض الآخر؛ كما سيجيء؛ عند دراسة المقال التحليلي ابتغاء فهمها والتحكم في توجيهها لصالح الإنسان المصري. ومعنى هذا أن الأسلوب الاستقرائي أنسب الأساليب في تحرير المقال الصحفي، لما يتيحه من أحكام عقلية عامَّة يتوصل إليها كاتب المقال عن طريق ملاحظته لحركة الأحداث تقريرًا لحالتها, ووصفًا لحقيقة أسبابها ونتائجها، وأساس هذا الاستقراء هو الاطراد في وقوع الأحداث، ومن هنا يتميز الاستقراء الصحفي بأنه وصفيٌّ يقرِّرُ حالة الظواهر كما هي في الواقع, ويقوّمها في ضوء حركة الأحداث, لا كما "ينبغي أن تكون" كما تذهب إلى ذلك قوانين العلوم المعيارية7. وإذا كانت وظيفة الاستقراء الصحفي هي تفسير الظواهر الحسية الواقعية، أمكننا أن نذهب إلى أن المقال الصحفي لا يعرض للبحث في طبيعة الظواهر وماهيتها، والغاية من وجودها، لأن هذا من شأن الفلسفة التقليدية.