من أجل هذا صرَّحَ طه حسين في بيئته الصحفية الثانية بأنه يريد أن يصطنع "هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء"1، ذلك أن هذا المنهج يتيح له أن يكون "واضحًا جليًّا, وأن يقول للنَّاس ما يريد أن يقول دون أن يضطرهم إلى أن يتَأَوَّلُوا ويتعمَّلوا ويذهبوا مذاهب مختلفة في النقد والتفسير والكشف عن الأغراض التي يرمي إليها"2؛ إذ الأصل في التفكير العلمي أنه أداة لكسب معرفة جديدة عن طريق الانتقال من معلوم إلى مجهول وفقَ قواعد معينة حدَّدها منهج علمي، وقد ثبت أن الكثير من الحقائق لا يتيسر الكشف عنه بطريق القياس الذي يبدأ بوضع مقدِّمات عامة, ويهبط منها متدرجًا إلى أفرادٍ تندرج تحت هذه المقدمات. ومنطق الأشياء يقتضي البدء بالصعود قبل القيام بالهبوط، أي: أنَّ الباحث يتدرج في استدلالٍ صاعدٍ يرتقي فيه من الحالات الجزئية إلى المقدمات العامة، وهذا الاستدلال الصاعد هو الاستقراء الذي يتَّسِمُ به الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين، لينتقل من جزئيات الواقع الملموس إلى حكم عام، فإذا كان معيار الصدق في القياس اتساق نتائجه مع مقدماته، فإنه في حال الاستقراء تتطابق نتائجه مع خبرتنا في العالم الحسي والواقع الملموس، ومن أجل ذلك فإنه أصلح في الأسلوب الصحفي الذي يقتضي اتساق "صورة الفكر ومادته" المشتقة من الواقع العملي.
وليس معنى هذا أن الأسلوب الصحفي في مقال طه حسين يستغني بالاستقراء عن القياس، إذ أنه يتوصَّلُ بالاستقراء إلى القضايا العامة، ولذلك يجعل هذه القضايا في قياسٍ يتثبَّت عن طريق قواعده من صحة هذه المقدمات العامة، ويكون ذلك بتطبيقها على حالات جزئية من الواقع المتجدد لحركة الأحداث، وبهذا نجد أن القياس في أسلوب طه حسين متمم للاستقراء، كما أن الاستقراء ضروري للقياس من حيث أن التثبُّت من صحة المقدمات العامة في المقال، إنما يكون عن طريق الاستقراء.
ومن ذلك يبين أن مقال طه حسين يرتقي إلى النتائج العامَّة من الجزئيات المشتقة من الواقع الملموس ومن سياق حركة الأحداث، بملاحظة هذه الجزئيات وتقويمها، من خلال الاستقراء العلمي Imperfect Induction أو الناقص، لكسب معرفة جديدة, أو للكشف عن حقائق مجهولة وفقًا لما تقتضيه وظيفة المقال في اتجاهاته المختلفة سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا.
وشواهد هذا الأسلوب الاستقرائي في مقال طه حسين تفوق الحصر،