وفي ضوء هذه الرؤيا، فإن المقال الصحفي في أدب طه حسين يشتق بلاغته من الواقع المحسوس، معتمدًا على قدرته في التحليل والتعليل، وحسن تذوّقه للحوادث الجارية، والأدلة التي يسوقها على صحة رأيه في مسألة من المسائل، من خلال الشواهد العملية والتقارير الرسمية وغير الرسمية، ومن ثَمَّ يشف مقاله عن عقلية عملية منظمة، تجمع بين العلم والأدب والصحافة جميعًا، فهو يعمد إلى الحوادث التي تصل إلى علمه، فيحللها تحليلًا عميقًا دقيقًا؛ متوسِّلًا بثقافته العريضة في تقويمها، وبأسلوبه الاستقصائي في حشد العدد المناسب من الحقائق والوقائع، ونُمَثِّلُ لذلك بمقالٍ جعل عنوانه: "حقائق"1 يقول فيه:
"ليست خيالًا ولا وهمًا، وليست ظنًّا ولا ترجيحًا؛ وإنما هي حقائق لا تقبل الشك ولا تحتمل النزاع, هذه التي رفعها صاحب السعادة أحمد عبد الوهاب باشا وكيل المالية، إلى رئيس الوزراء حين طلب إليه أن يدرس حالتنا المالية، ليتبين أيمكن أم لا يمكن البدء في تنفيذ هذا المشروع الذي اضطربت له البلاد، وما زالت تضطرب، لا أقول منذ عام, بل منذ زمن طويل، وهو مشروع جبل الأولياء"2.
ثم يشير إلى التقرير الذي نشرته "كوكب الشرق" متضمنًا هذه الحقائق التي يتناولها "بالتفسير والتحليل"3 ويقف عند "ملاحظات سياسية تثيرها قراءة هذا التقرير الذي كتبه عبد الوهاب باشا"4.. إلخ.
ومن ذلك يبين اعتماد طه حسين على الأسلوب الواقعي في مقاله الصحفي, وهو أسلوبٌ يتنكب طريق الأدب الذي يتسلق على كلام السابقين من مشاهير الشعر والحكمة، ذلك أن الصحافة فنٌّ واقعيٌّ لصيق الصلة بالأحداث الجارية، وليس معنى ذلك أن طه حسين قد أعرض إعراضًا تامًّا عن استخدام الأمثلة والشواهد المستقاة من ثقافته، بل معناه أنه كان مقلًا في ذلك إقلالًا يضع مقاله في دائرة الصحافة بمستواها العملي الواقعي، وهذا الاستخدام القليل، لم يكن استخدامًا لذاته، بقدر ما جاء استخدامًا وظيفيًّا يخدم الأسلوب الواقعي في الإقناع والتحليل والتوجيه, وفي هذا المستوى الوظيفي كان له من الاستشهاد بأقوال الساسة والفلاسفة والشعراء من العرب والأوربيين ما يحتاج إليه في أداء وظائف المقال، ومن ذلك استشهاده في مقالٍ بعنوان