لعل رجلاً يسأل نفسه أين كان الفلسطينيون آنذاك؟ فهمنا أن الجيش التركي انسحب بعد خيانة مصطفى كمال أتاتورك، وفهمنا أن الجيش العربي يضرب في الدولة العثمانية في الشام، وقد خرجت فلسطين من بؤرة اهتمامه، لكن أين أهل البلد من الفلسطينيين؟ الواقع أن أهل البلد كانوا أحد رجلين: إما عاجز، وإما مخدوع، والعجز جاء من كون فلسطين لا تملك جيشاً ولا تملك حاكماً قائداً، فالخلافة العثمانية كانت تهتم اهتماماً كبيراً بهذه المنطقة لكونها مقدسة، فكان فيها حامية عثمانية كبيرة، وقد لاحظنا أنها أفردت لها جيشاً خاصاً كبيراً في الحرب العالمية الأولى، وكانت دائماً تعين عليها حاكماً تركياً كبيراً.
والحق يا إخوة! إني أرى أن هذا كان خطأً كبيراً من الخلافة العثمانية، إذ كان من الواجب أن يكون قوام الجيش الحامي لفلسطين من أهل فلسطين أنفسهم، وأن يكون الوالي عليها من أهلها إن أمكن؛ وذلك لأنه فضلاً عن كونهم يعرفون أرضهم أكثر من غيرهم، فإن الإنسان يكون في قلبه حب فطري للمكان الذي ولد فيه، وهو أسرع الناس للدفاع عنه، لكن الوضع في فلسطين كان مختلفاً، فأهل البلد لا يملكون سلاحاً، ولم يتدربوا عليه إن وجد، ولا يملكون فكراً عسكرياً ولا تخطيطاً استراتيجياً، وهو خطأ لا بد أن يعلم، ولكن المشكلة الأكبر في فلسطين لم تكن كون الشعب عاجزاً عن الدفاع عن نفسه، إنما المشكلة الحقيقة كانت في كون الشعب مخدوعاً بأفكار عجيبة وآراء غريبة كانت سبباً مباشراً في الاحتلال الإنجليزي لفلسطين، مؤامرة فكرية كبيرة كانت تخطط في فلسطين كما كانت تخطط في كل البلاد العربية والتركية.
هذه الأفكار والآراء ببساطة شديدة هي القومية العربية، فكما كانت تنتشر في البلاد العربية فكرة القومية العربية، وفكرة الاستقلال عن الخلافة العثمانية، وفكرة التمسك بالآباء والأجداد دون الدين، كانت أيضاً هذه الأفكار تنتشر في فلسطين، وكانوا يحلمون بأن يقودهم الشريف حسين بدلاً من الخليفة العثماني.
إنجلترا الشيطان الأوربي المحتل لعبت على هذا الوتر، فقد دخلت الجيوش البريطانية فلسطين موهمة أهل البلد أنها ما دخلت إلا لتحرر البلاد والعباد من بطش الأتراك الظالمين، ومن جيش الأتراك المحتل، ما دخلت إلا بدافع الشفقة عليهم والحرص على مصالحهم، ما دخلت إلا لتسلم فلسطين بعد ذلك إلى الشريف حسين لتصبح جزءاً من مملكة عربية موحدة.
قالت لهم إنجلترا ذلك، فصدقوها وفتحوا لها الأبواب، ونسوا ما قاله وزير خارجية بريطانيا بلفور في وعده لليهود، ولم يمر عليه أكثر من أسبوعين، صدقوا إنجلترا وأفسحوا الطريق للمدرعات والجنود الإنجليز.
ودخل اللنبي الجنرال الإنجليزي القدس وقال أول ما قال: الآن انتهت الحروب الصليبية.
فالقضية في منتهى الوضوح عند الإنجليز.
لا شك أن الشعب الفلسطيني كان يعاني من غفلة سياسية واضحة، ولا بد كي يُمكَّن الإنجليز أو اليهود أن يكون هناك أخطاء للمسلمين، فإنهم لا ينصرون علينا بقوتهم ولكن بضعفنا.
أضرب مثلاً على هذه الغفلة: كونت في فلسطين في الأيام السابقة للاحتلال الانجليزي جمعية تضم كبار السياسيين في فلسطين من أهل فلسطين، حتى إنه كان فيها مفتي القدس الشيخ أمين الحسيني، وهو رجل اشتهر بالذكاء والحمية والإخلاص، لكنه خدع في البداية كما خدع الآخرون، كونت هذه الجمعية للتفكير في وضع فلسطين وشأنها، لكنها للأسف كونت على أساس قومي تماماً لا على أساس إسلامي، لدرجة أن اسمها كان الجمعية الإسلامية المسيحية.
وكدليل على غفلة هذه الجمعية وقلة فقهها للأحداث، وقصر نظرها في رؤية المستقبل أصدرت هذه الجمعية بياناً بعد عام كامل من دخول الجيش الإنجليزي إلى فلسطين بمناسبة مرور عام على دخول إنجلترا فلسطين، أصدرت هذا البيان في 16/ 11/1918م قالت فيه: في مثل هذا اليوم السعيد من السنة الماضية دخل الجيش البريطاني المظفر مدينة يافا رافعاً ألوية النصر؛ لتحريرنا نحن العرب من ظلم الأتراك، وقد أقمنا هذه الحفلة لنقدم لجلالة الملك -طبعاً ملك بريطانيا- وسعادة الجنرال اللنبي وسائر أمراء وأفراد الجيش المظفر مزيداً من التبريك، راجين من الله دوام نصره وتوفيقه لدولة بريطانيا العظمى الناصرة للأمم الضعيفة المظلومة.
سبحان الله! من الغريب جداً أن يكون هذا البيان صادراً عن مجموعة من العقلاء الذين يقتنعون بأن حل القضية بيد الإنجليز، مع أن الإنجليز هم السند الرئيسي لليهود في ذلك الوقت، خاصة وأن ذلك البيان صدر بعد وعد بلفور، وإن كان يستغرب ذلك فما أشبه اليوم بالبارحة!! فكثير من العقلاء أو كل الذين يظنون أنفسهم عقلاء يعتقدون أن حل قضية فلسطين في يد أمريكا، وأنها كدولة عظمى ناصرة للأمم الضعيفة المظلومة سوف تأخذ بيد العرب والفلسطينيين إلى تسوية عادلة شاملة ولو على حساب اليهود.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
المهم أنه في فلسطين أدت الغفلة إلى سهولة د