حتى نفهم الصورة تعالوا نغوص في أعماق التاريخ، نذهب إلى المعسكر الدائم للإيمان، نذهب إلى المدينة المنورة، نذهب إلى ساحة واسعة يجلس فيها خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وعن يمينه ويساره وأمامه مجموعات ومجموعات من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، يحفزهم صلى الله عليه وسلم على الإنفاق تجهيزاً لجيش عظيم في وقت عصيب، اشتد فيه الحر، وعظم فيه الخطب طال فيه السفر، وقلت فيه المادة، وحان وقت القطاف، لكن لا بد من المغادرة، هذا التجهيز تجهيز جيش العسرة، ترى ماذا فعلوا حتى ينزل الله في حقهم: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]؟ لكن قبل أن نرى فعلهم، ونستمتع بصحبتهم تعالوا نعقد مقارنة عجيبة وقياساً غريباً، وأعطوني أذهانكم.
مقارنة بين تبوك وفلسطين: تخيل معي بهدوء لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا وحدث أمران في وقت متزامن: أمر فلسطين على ما هي عليه الآن من وضع، وأمر تبوك على ما كانت عليه من وضع، وطاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكفي إلا لإخراج جيش واحد، ترى ماذا سيكون موقفه؟ أتراه يختار تبوك؟ أم تراه يختار فلسطين؟ أتراه يحفز على تبوك أم تراه يحفز على فلسطين؟ إن تبوك كانت لمقتل رسولين من المسلمين في أرض الشام في طريقهم إلى قيصر، وفلسطين قتل فيها في سنة واحدة 800 شخص.
تبوك كان الجيش الروماني يتجهز لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل الجزيرة العربية بعد، بل كان جيش الروم في أرض الشام ولم تكن أرضاً إسلامية آنذاك.
فلسطين يعيث فيها الجيش اليهودي القذر فساداً، والجيش اليهودي في أرض إسلامية لا يحتل فقط، بل يستبدل أهل فلسطين بأهله! تبوك لم يخرج فيها مسلم من داره، فلسطين أخرج نصف أهل البلد من ديارهم، وربنا يأمر وعلينا الطاعة فيقول: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191].
تبوك كانت تهديداً ولم يحدث بعد قتال، وفلسطين تعاني من حرب ضارية قائمة بالفعل، وربنا يأمر وعلينا الطاعة، فيقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190].
تبوك لم تكن بها مقدسات إسلامية، بل كان بها ديار الظالمين ديار ثمود، أما فلسطين ففيها الأقصى ثالث الحرمين وأولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فشتان في اعتقادي بين الموقفين، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرنا لاختار فلسطين على تبوك إن كان لا بد من الاختيار، فقضية فلسطين أشد خطورة، وكلتا القضيتين خطير.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه كان مشغولاً بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى الرومان؛ لكون الرومان بدءوا في قتل من أسلم من أهل الشام، وهذه قضية خطيرة وتجاوزات كبيرة، وفي نفس الوقت قتل مسيلمة الكذاب مدعي النبوة رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب بن زيد رضي الله عنه، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كان عليه أن يختار هل يرسل جيشاً إلى الرومان الذين بدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ويقتلون المسلمين، ويغيرون على قبائلهم وأرضهم، أم يرسل جيشاً للثأر لقتل رجل؟ فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل جيشاً للرومان، هكذا فقه الموازنات وفقه الأولويات.
وانظروا ماذا فعل الصحابة الكرام في تبوك، وتخيلوا كيف كانوا سيفعلون لفلسطين.
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم باب التبرع علانية حتى يحفز المسلمون بعضهم بعضاً، وكان أول القائمين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ قام فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك سروراً عظيماً، فهذا عطاء كثير، ثم فتح باب التبرع من جديد، فقام عثمان بن عفان ثانية يزيد الأجر لنفسه قال: علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، وسعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم سعادة عظيمة حتى إنه قال: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم)، ولم يسكن عثمان ولم يطمئن، بل أخذ يدفع من جديد حتى وصل ما تبرع به إلى ثلاثمائة بعير، وفي رواية: تسعمائة بعير ومائة فرس، ثم ذهب إلى بيته، وأتى بألف دينار نثرها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها متعجباً.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرجل العجيب أتى بأربعة آلاف درهم، قد يقول قائل: إنها أقل بكثير مما جاء به عثمان.
لكنها سبحان الله! تعتبر أكثر نسبياً من عطاء عثمان؛ لأنها كل مال أبي بكر الصديق، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: (وماذا أبقيت لأهلك؟ قال له في يقين: أبقيت لهم الله ورسوله).
أما عمر بن الخطاب