فكر ومباحث (صفحة 161)

ووجدنا في هذه القصة أن الفضل أمسى عليه المساء وهو هارب ماش في الطرقات فلما كان بعد العشاء أغلقت أبواب الأحياء، ففهمنا من هذا أن التجول ليلاً لم يكن ميسوراً، وأن العسس كانوا يغلقون الأبواب. وهذا الأمر معروف في دمشق وفي القاهرة. وأنا أذكر البوَّابات وكيف كانت تغلق، وآخر ما بقي منها (أو ما أعلم أنه بقي) بوابة عند حمام أسامة (قرب البادرائية).

استطردت هذا الاستطراد الذي كاد يخرج بي عن الموضوع لبيان أن التاريخ الاجتماعي لا يستخلص إلا من الأدب، وأن تاريخنا الاجتماعي والعلمي لم يكتب، وإنما كتب التاريخ السياسي، أو كتبت مصادره على الأصح.

هذا هو الأدب الإقليمي الذي أريده، ولست أريد أن يكون لقطر من الأقطار العربية أدب مستقل في لغته، خارج على العربية لغة الجميع، وأن يهجر كل أدب أخاه فلا يعرفه، وأن تأخذ كل قوم العصبية لأدبهم؛ فتنقطع أوصال الأدب العربي، وتتفكك أجزاؤه. وينبتر من ماضيه، وهذا ما لا نحسبه يكون لمكان القرآن من هذه اللغة، ولأن الله يحفظها به وله، ولأن هذه العربية أكثر من لغة هي رابطة متينة لا تحلها يد أجنبي أو منافق أو ضعيف جهلها فعاداها.

والقطر الشامي أبعد الأقطار بحمد الله عن هذه العصبية الباطلة، وأشدها تسامحاً، ولكنه (بالغ في الرقة حتى انخرق) واشتدَّ به التسامح حتى صار ضعفاً وتفريطاً وصار الشاميون؛ أعني صرنا نسيء الظن بأنفسنا حتى لا نجد نابغاً ينبغ فينا إلا فتَّشنا عن عيوبه وحططنا منه. ولقد فكرت في هذا الأمر أمس فوجدته واقعاً وحقيقياً؛ ووجدتني أنا من أكثر الناس التباساً به. حتى أنني (والله) أسيء الظن ولا أرضى عن شيء كتبته قط.

أقول إننا قد بالغنا في التسامح فنحن في حاجة إلى شيء من العصبية؛ كما أن إخواننا في لبنان ومصر في حاجة ماسة إلى شيء من التسامح.

أما لبنان فيذم أدباؤه الفئة المختارة من رسل البيان ولسن القرآن كالرافعي والزيَّات والبشري وشوقي ويقيم الدنيا ويقعدها دعاية لفئة من الأدباء الناشئين أكبر ما يقال فيهم إن لهم بصراً بفن القصة ويحسنون الوصف على ركاكة وبعد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015