فكر ومباحث (صفحة 162)

عن البلاغة. وكل حسنة عند إخواننا اللبنانيين لمصري أو دمشقي سيئة لأنه ليس عليها طابع لبنان، وكل سخافة يأتي بها لبناني أدب وكل سيئة أكبر الحسنات.

وأما مصر فلا يكاد يعرف كثير من أهلها أن في الدنيا بلاداً عربية فيها أدب وحياة فهم يقنعون بمصر ويسمّون مصر (أم الدنيا) ويجهلون أحوال البلدان المجاورة سياستها وأدبها وطبيعتها، وعندي في هذا الباب نوادر منها أنني سمعت مرة قاضياً شرعياً يتحدث عن عكا فخلط في موضوعها خلطاً ظاهراً فسألته فلم يدرِ أين تقع من القدس أو من دمشق وآخر من المتعلمين لم يفرِّق بين سورية وفلسطين ونحن معه أنهما كلهما سورية ما خلق الله إلا هذا، ولكنه لم يدر أنهما اليوم حكومتان. بينما تجد الشاميين أو العراقيين يعرفون من أحوال مصر وسياستها أكثر مما يعرف الكثرة من المصريين أنفسهم.

ومصر متعصِّبة لأدبها وعلمها، فالأثر الأدبي الذي لا يكون مصرياً، أو لا يطبع في مصر، لا يكتب له الرواج الواسع في مصر. يعرف ذلك الورَّاقون ومن درس حالة المكتبات وسوق الكتب في البلدين وقد وصل هذا الأمر إلى النقاد، فأرسل الأستاذ معروف الأرناؤوط (كتاب سيِّد قريش) إلى كثير من ناقدي مصر كالعقاد وطه حسين فلم يكتبوا عنها.

ولا أدع هذا البحث قبل أن أشير إلى حادثين كان لهما أكبر الأثر في إضعاف العصبية المصرية؛ وتعرُّف المصريين: كتَّابهم وأدبائهم، الأقطار العربية الأخرى بعض التعرف:

أولهما حادث ظاهر في تاريخ الأدب العربي الحديث. وباب وحده فيه سيتَّسع ويشغل من هذا التاريخ يوم يكتب صحائف كثيرة؛ ذلك هو إنشاء الأستاذ أحمد حسن الزيات مجلة الرسالة لأنها أولا مجلة مصرية كبيرة كسرت هذا الحاجز وفتحت صدرها للأقطار العربية جمعاء. فكانت كبرى المجلات العربية وأرقاها ولا خلاف، وكانت أجل صلة بين أبناء العربية وكانت الندوة التي يلتقون فيها، ففيها من كل بلد طائفة من أهله: من الشام وفلسطين والعراق والحجاز والمغرب وأوروبا وأميركا وسنغافورة، وصاحبها من أكابر أدباء العصر،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015