فكر ومباحث (صفحة 128)

التشجيع

قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نموُّ العلوم وازدهار الآداب، وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيِّمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع! وقالت: إنها في تلك السنّ، بعد تلك الشهرة والمكانة، تدفعها كلمة التشجيع حتى تمضي إلى الأمام وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير.

وإن من أظهر الأسباب في ركود الأدب في الشام في القرن الماضي، وانقطاع سبيل التأليف، هو فقدان التشجيع، وذلك «الاحتكار العلمي» الذي قتل كثيراً من النفوس المستعدَّة للعلم وخنق كثيراً من العبقريات المتهيئة للظهور، فقد كان العلم في الشام مقصوراً يومئذ على بيوت معروفة لا يتعدَّاها ولا يجوز أن يتعداها، هي: بيت العطار، والحمزاوي، والغزي، والطنطاوي، والشطِّي، والخاني، والكزبري، والإسطواني، والحلبي ... وكانت كلها متجمعة حول المدرسة البادرائية؛ في القيمرية والعمارة، وزقاق النقيب، حيث يسكن الأمير العالم المجاهد عبد القادر الجزائري، رحمة الله عليه وعليهم، وكان لهذه البيوت كل معاني الامتياز و «الاحتكار العلمي»، فإذا سُمع أن شاباً اشتغل بالعلم من غير هذه البيوت، وقدَّروا فيه النبوغ، وخافوا أن يزاحمهم على وظائفهم الموروثة، بذلوا الجهد في صرفه عن العلم، والعدول به إلى التجارة؛ أو ليست الوظائف العلمية وقفاً على هذه البيوت؟ أو ليس للولد ولاية العهد في وظيفة أبيه، تنحدر إليه الإمامة أو الخطابة أو التدريس عالماً كان أوجاهلاً، فكيف إذن يزاحمهم عليها أبناء التجار، وهم لا يزاحمون أبناء التجار على «حوانيتهم»؟ أو لا يكفي أبناء التجار هذا القسط الضئيل من النحو والصرف والفقه والمنطق الذي يمنُّ به عليهم هؤلاء العلماء؟ ...

طور بواسطة نورين ميديا © 2015