القضاء، فلما تعذَّر عليه الفرار ووقع، نهض به نهضة جعلته علماً فيه شامخاً، وجبلاً باذخاً، وجعلت المثل يضرب به في إصابة قضائه، وحدَّة ذكائه، فيقول القائل: إياس، ويكتفي.
خوفهم من القضاء أنه محنة لا يدرون مامغبَّتها، وبلاء لايعرفون ما عاقبته، أيفلحون فيه أم يخرجون منه وقد حبطت أعمالهم. وزاد خوفهم منه ما ورد في أهله من الوعيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شبَّه صاحبه بالمذبوح بغير سكين (?)، وأنه جعل القضاة ثلاثة: قاضياً في الجنة وقاضيين في النار (?).
...
نظر هؤلاء بعين الورع، ونظر غيرهم بمنظار الشريعة، فرأوه كما قال عمر بن الخطاب: فريضة محكمة، وسنَّة متبعة، وعبادة من أفضل العبادات، وطاعة من أجلِّ الطاعات، فرغبوا فيه، وتقرَّبوا إلى الله به. قال مسروق، الإمام التابعي الثقة: لأن أقضي يوماً بالحق أحب إليَّ من أن أرابط سنة في سبيل الله. واستدلَّ على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: عدل ساعة خير من عبادة سنة. وحديث ابن مسعود: إنه لا حسد (يريد لا غبطة) إلا في اثنتين، إحداهما: رجل آتاه الله علماً، فهو يعلِّمه ويقضي به. وقال مكحول فقيه الشام في عصره: لأن أكون قاضياً أحب إليَّ من أن أكون خازناً. (قال السرخسي): لأن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم، والقاضي يحفظ عليهم دينهم. وفسَّر عليٌّ، رضي الله عنه، والعلماء من بعده حديث قاضيي النار أنهما، قاض علم علماً فقضى بخلافه، وقاض جاهل يقضي بغير علم (?). وفسَّروا حديث المذبوح بغير سكِّين بأنه القاضي الجائر، يدل على ذلك ما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجُرْ، يسدِّده للحق ما لم يردْ غيره (?).