منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. يا أيها السادة. إن منَّا قضاةً كانوا يبيعون الملوك (?)!
القضاء، أيها السادة، مركب وعر، ومسلك خطر، وكيف لعمري يستطيع بشر، لا يعرف من الأمور إلا ظواهرها، قد خفيت عنه البواطن، وحجبت الأسرار ... كيف يستطيع أن يقيم حقيقة العدل، ويصيب كبد الحق، ويقوم مقام الرسل والأنبياء، والرسل يتَّصلون بالسماء بالوحي، ويسلمون من المعصية بالعصمة، وهم مع ذلك لم يؤتوا علم الغيب، وإمام الأنبياء محمد يقول: إنما أبا بشر مثلكم، وإنكم لتحتكمون إليَّ، ولعل أحدكم ألحن بحجَّته من صاحبه فأقضي له فإنما أقضي له بقطعة من النار (?) وكيف يهدأ له بال، ويقرّ له قرار، ويلتذّ بمطعم أو مشرب، ويطرب ويلعب، وهو يحمل أثقل عبء حمله إنسان: يريد أن يحقِّق العدل الإلهي بالوسائل البشرية، ويقول كلمته هو، فيسمِّيها كلمة الشرع، ويصفها بأنها حكم الله؟
لذلك فزع الصالحون من القضاء، وفرُّوا منه فراراً، ورضوا بالسجن ولم يرتضوه، وصبروا على الضرب ولم يقبلوه. عرض على أبي حنيفة ثلاثاً، وهو الإمام الأعظم، فأباه، فضرب على إبائه تسعين سوطاً وظلَّ على الإباء. وقلد سفيان الثوري القضاء، وشرطوا له ألا يعارَض فيه، فألقى عهده في دجلة واختفى. وطُلب ابن وهب ليولَّى قضاء مصر، فجمع إخوانه وأهله فشاورهم فقالوا: اقبله فلعلَّ الله يحيي الحق على يديك! فقال: أكلة في بطونكم، أردتم أن تأكلوا ديني؟ ثم اختفى وجعل الوالي يطلبه فلا يقدر عليه، فلما عجز عنه هدم بعض داره. وكان في اختفائه يقول: يا رب، يقدم عليك إخواني غداً علماء حلماء فقهاء، وأقدم قاضياً؟! لا يا رب، ولو قُرضْتُ بالمقاريض!
ولم يكن الولاة يفعلون ذلك تشفِّياً وانتقاماً ممن أبى الولاية، بل رغبة منهم في صلاح الأمة بتولية خيارها قضاءها. ومن قبل هؤلاء فرَّ إياس من